الفن يكون أو لا يكون ليس أنبلَ من الفنّ إلا الفنانُ نفسه، حين يقدس فنه ويرقى به ويسمو برسالته الفنية إلى عليين، ويلتزم في حياته العادية بما يقوم به من أدوار فنية في مختلف إبداعاته، لوحاتِ كانت أو روايات أو قصائد ومسرحيات.وبالمقابل،يصابُ الفن في مقتل ،ويخنقه الابتذال ،ويصبح صناعةً رخيصة حين يكون الفنان ريشة في مهب الرياح، ومجرد ضيف على موائد القتلة ، وشبيه "قرد" يقوم بحركاته البهلوانية في خفة ونزق أبله.فالفنان قادر أن يسمو بفنه ويجعل أدواره الفنية ملهمة لمحبيه وعشاقه والناس أجمعين ،وقد يزل الفنان،ويرتكب خطيئة العمر حين ينقض غزله من بعد قوة أنكاثا،فيخذل جمهوره ومحبيه،حين يكتشفونه على حقيقته ،متلبسا بجرمه في حق الفن وأهله. صحيح أن الفن ،في كثير من الأحيان،يصور ما ينبغي أن يكون وليس ما هو كائن.ومعلوم أن الخيال قد يسرح بعيدا في تمثله للحياة المأمولة.فهو بمعنى من المعاني هروب من جحيم الواقع إلى الجنة المنتظرة.وهي رسالة أهل الفن،أن يلهموا الناس ويرسموا لهم طرقا في الحياة أرحب،ومآلات قد تكون بعيدة لكنها بطعم الحب والعدل وكل ما يحلم به الإنسان المضطهد على وجه الخصوص.أي أن هناك مسافة بين ما يرسمه قلم الفنان أو ريشته أو صوته،وبين الواقع كما هو أو كما سيصبح بعد حين من الدهر،حين تصبح أحلام الفنان مشاريع قابلة للتحقق والإنجاز. ولا يضير الفنان أن يطلق لخياله العنان كي يتصور المستقبل دائما أجمل وأروع وأحلى.إنما يضير السياسي ورجل السلطة،كما يضير رجل الشارع البسيط،ألا يهتدي ويقتفي سبيل الفنان خطوة خطوة.ويقنع بما هو كائن أو بما هو أقل منه في بعض الأحيان.فإذا كانت السياسة،بحكم تعريفها،هي فن الممكن.وإذا كانت القاعدة التي ملأت كثيرا من العقول تنص على أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان،فإن الفن لا يتجاوز فقط هذه المقولات المسكوكة، والتي دأب الكثيرون على ترديدها كأنها زبور مقدس،وإنما يتجاهلها في كثير من الأحيان،لأن أفقه أرحب،ورسالته أسمى، ولأن الفنان قد يصبح في نسكه وإيمانه برسالته أقرب من القديسين والأولياء الصالحين،القادرين على إضفاء المعنى المطلوب على السياسة،بل و إضفاء المعنى على الحياة برمتها. ليست هذه شطحاتِ في دنيا الخيال.بل هي رسالة الفن والفنان.فالفن إما أن يكون أو لا يكون.وهو ، لكي يكون حقا وصدقا،أمامه كثير من التحديات والسراديب التي تغور عميقا في الوجدان الجمعي وعقل المجتمع الذي يضع قوانينه رجل السياسة بدهائه وحنكته،وقل إن شئت بمكره وكيده.ولا عجب أن يكون السياسي عدوا للفنان على طول الخط،لأنه حين يوافق الفنان في رؤيته،يصبح هو بدوره فنانا آخر في سياسته.طبعا نحن نتحدث هنا عن الفنان الحقيقي الذي يكرس فنه لخدمة الإنسان وتهذيب طبعه والسمو بخلقه وبإنسانيته.،وليس ذلك الفنان ،الذي يحمل هذه الصفة ظلما،وليس له من الفن نصيب يذكر.ولا عجب أيضا أن يرقى المواطن العادي ويتهذب سلوكه وتتحسن أخلاقه حين يكون الفنان قدوته.في حين يسقط ويتردى ذوقه وسلوكه،حين يكون السياسي الانتهازي من يرسم خارطة طريقه. إن التاريخ يحفظ ألواحا دامية ولوحات درامية لسلوك الحاكم الأرعن تجاه الفنان: ضمير مجتمعه وملهم الجماهير.ولنا يقين أنه لن تكون حنجرة المغني السوري إبراهيم قاشوش آخر عضو في جسد الفنان يبتر.ولن تكون أنامل علي فرزات آخر أنامل تكسر. الفنُّ وقودُ الثورة والفنان قائدها الثورة هي رد الفعل الطبيعي على استشراء الظلم وتطاول الظلمة.ربما يصبر الناس ويركنون إلى المستبد ردحا من الزمن،ليس اقتناعا ولا رضا بنار الظلم وسوط الظالم.ولكن لأن الرؤية لا تكون واضحة،حيث يعمد الحاكم بكل وسائله،بأبواقه الإعلامية، وبأشباه مثقفيه ... بشيوخه وكهنته ،لتعتيم الرؤية وخلق الفوضى.فيصبح الحكم الموضوعي على الأشياء شبه مستحيل.ولذلك،أمام هول التزوير وحجم التلفيق الكبير،يصبح متعسرا على الأغلبية أن تستوعب حقا ما يجري حولها ويدور.فلا يقوى على هذه المهمة إلا فنان صاحب روح شفافة وقدرة على الاستقراء أو مثقف لم يبع ذمته بثمن بخس للمستبدين. إن أبلغ وصف للظلم هو ما ورد في حديث عن رسول الله حيث يقول : ( اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ) لأنه يردي صاحبه في ظلمات لا يعلمها إلا الله. وبالقياس على قوله فإن الظلم والتسلط والطغيان والاستبداد ظلمات أيضا في الدنيا.حيث تصبح الرؤية مشوشة،وتصبح قراءة الواقع، كما هو ، جدا متعسرة.وكل من يشير بإصبعه إلى مكامن الخلل وأصل الداء يعذب أو ينفى من الأرض. هنا يبدأ دور الفنان الموهوب صاحب الرؤية الثاقبة والمشبع بحب العدل والحق والدفاع عن حق الناس في الحياة الكريمة والعادلة.لأن الفنان عنده قدرة على التلميح بدل التصريح،وعلى قول الحقيقة في شكل آخر.وكلما كانت أدوار الفنان نابعة من حبه للعدل والحق، كلما كانت أكثر تعبيرا عن الحقيقة كما هي في حس الناس من حوله. وليس مطلوبا من الفنان أن يحمل بندقيته على كتفه كي يعري الظلم ويخرج الحقيقة من بحر الظلمات.ولكن المطلوب أن يبقى هذا الفنان هو ضمير المجتمع الحي القادر على أن يرفع صوته ولو بغير قليل من التلميح والمحاكاة.فالناس قد لا يثورون لمجرد أن ألهب الفن مشاعرهم،لكن ما هو مهم هو الاحتفاظ بشعلة الرفض للظلم والتسلط متقدة ولو تحت الرماد،والاحتفاظ أيضا بصورة الحق واضحة جلية ولو من وراء حجاب. فالثورة لها أسبابها الكثيرة، ولها شروطها، ولها لحظتها التي لا تخلفها.وحسبنا أن نشير هنا إلى كون الفن الحقيقي هو وقود للثورة حين تَخلُّقِها،وعند انطلاقها،وطوال مسارها.وسواء وصلت الثورة مبتغاها،أو أجهضها أعداء الثورة،فإن الفن يبقى معبرا عن هذه الثورة وملتزما روحها وأهدافها ومراميها البعيدة. ومهمة الفنان أن يكون قائدا لا مجرد رقم وسط الحشود الثائرة.لأن للفنان سطوة على الجماهير وعلى محبيه وعشاقه.وكلنا نتذكر أولئك الفانين الكبار الذين وقفوا إلى جانب الشباب الثائرين في مصر من أول يوم،وكيف كان تأثيرهم ملحوظا وموقفهم مشهودا.على عكس من آثر السلامة واحتفظ بفنه نظريا لا يقوى على تعميده في ميدان الثورة كي يكتسب قدسيته الحقيقية وجماله البهيج.ونفس الشيء يتكرر في سوريا،وبشكل أبشع،لأن النظام هناك أكثر دموية وإرهابا وترويعا.فهو لا يميز بين فنان أو مثقف أو شيخ جليل،كلهم يرسل شبيحته كي يدوسوا فوقهم،وينكلوا بهم،ويخنقوا أنفاسهم الأخيرة. ولكن الفنان حقا،هو طائر الفينيق في سرب الثوار الأماجد،كلما حولوا جتثه رمادا،انتفض حيا ورقص من جديد فوق أشلاء القتلة،ليُلهم محبيه وعشاقه بشكل أكبر. شوية كرامة وشوية دولارات في المشهد الأخير من مسرحية : (كأسك يا وطن)، يقف "الفنان" دريد لحام على الخشبة وحده،في بؤرة الضوء،يشرب نخبه،ويدخل في حوار مع والده الشهيد في الجنة... يقارعه الحجة بالحجة ويدافع عن حاله الدنيوية في البلاد العربية،طبعا بسخرية مريرة ،وفي نهاية المشهد يسأله والده: ماذا ينقصكم ؟ يجيب دريد لحام : شوية كرامة !. لقد كان دريد لحام الفنان في وجدان الشعب معبرا عن طموحاته وأشواقه،كان لسان حال هذا الشعب.لكن في التمثيل فقط،لأن دريد لحام نفسه لما خضع للتجربة تبث أنه بعيد كل البعد عن تطلعات أبناء وطنه. لقد عبر عن حاجته للكرامة ممثلا على خشبة المسرح،وتجاهل كرامة الشعب فنانا في واقع الحياة.وتلك هي مأساة الفن في أهله،حين يخذلونه ويحولونه فقط مجرد طلاسم وعنتريات على الخشبة.وحين يجد الجد ينسحب الفنان،وبذلك يرتكب بدل الخطإ خطيئتين،الخطيئة الأولى حين عبر عن طموح الناس وشوقهم للحرية والكرامة والانعتاق،ورسم لهم حلمهم قريبا.والخطيئة الثانية،حين خذلهم وهم يطلبون العدل قانونا والكرامة خبزا يوميا والحرية نورا وضياء. فلا عجب أن يجعل الثوار دريد لحام على رأس قائمة العار.وإمعانا في "التنكيل به" ووخز ضميره ،صوروه في مشهد آخر ،في دوره المشهور غوار الطوشة،وهو يحاور صديقه في السجن،أو الممثل في "ضيعة تشرين" : نايف: "ضربوك كنير يا غوار؟" فيجيبه "غوار" : "ما بعرف يا نايف ما عدت حسيت بشي.. وأنت؟" نايف: أنا حسيت... حسيت أن الكلاب صارت أحسن منا.. غوار: عندك حق.. (يبكي ) نايف: شو عم تبكي يا غوار؟ يا حيفك يا غوار .. كان المستعمر يهريك من القتل وانت عم تضحك، هلق من كرباجين صرت تبكي مثل الأولاد الصغار؟!! غوار (بحرقة): يا إبني يا نايف ... لما بيضربك الغريب شكل ... ولما يضربك إبن بلدك شكل تاني... بكى دريد لحام بكاء محزنا وهو يمثل ،لكنه أدان الثوار الذين خرجوا بحثا عن شوية كرامة،فتسلط عليهم الأمن والشبيحة والجيش،يصبون عليهم كل أنواع العذاب.وذهب بعيدا في هلوساته ليقول أن مهمة الجيش هي حفظ الأمن والهدوء داخل البلد وليس محاربة (إسرائيل).وهو في موقفه هذا يفضح نوايا النظام السوري الذي طالما تغنى بالممانعة،في حين تبين أن هدفه الإمساك بالسلطة إلى الأبد،والإمساك بتلابيب الشعب حتى الموت اختناقا. إن المبرر الذي يساق في مثل هذه المواقف هو دموية النظام ودرجة قمعه الرهيبة.ولا أحد يشكك في مثل هذه الحجج.لكن إذا كان التصريح بمساندة الشعب في مطالبه يورد صاحبه مورد الهلاك،وإذا كان التلميح صعبا جدا أيضا في زمن الشبيحة والتشبيح.فإن أضعف الإيمان أن يلزم الفنان "الخائف" الصمت،فإن لم يستطع فليحترم شعور مواطنيه،ولا يكثر من المديح والتسبيح في حق نظام فقد كل مقومات الشرعية. هذا إذا أحسنا النية،واستبعدنا سلطان الدولار على كثير من الأنفس والمواهب ... الفنانون في المغرب خارج السياق أصلا مما يؤسف له حقا أن يكون الفن في بلادنا مترديا إلى درجة لم تعد تحتمل.لن آتي بالشواهد،وهي كثيرة،ويمكن الرجوع إلى كثير من المقالات التي تطرقت إلى مستوى المنتوجات التي عُرضت على القناتين الأولى والثانية بالمغرب طوال شهر رمضان.وربما لا نبالغ إذا قلنا بأن أحوال باقي أنواع الفنون الأخرى،وباقي الفنانين أيضا ليست بخير.وهو أمر مؤلم بل ومخجل في بعض الأحيان.هل يصبح الضحك على الذقون والإضحاك الأقرب إلى البكاء ( وكا لك هذا واحد !!! ) وتلك الأحجيات التي تتعامل مع المستمعين كأنهم في الدرك الأسفل من البلادة والغباء وانعدام الحس ... أيصبح هذا الخليط فقط على رأس منتوجنا في أفضل شهر في السنة عند المغاربة المسلمين ؟ ما هي رسالة هؤلاء الفنانين ؟ وما هي القيم والمباديء التي يريدون غرسها في المواطن المغربي أو تحبيبه في تبنيها؟ وما هي مواصفات الفن الناجح ومن ثمة الفنان الناجح ؟ لا يعقل أن تصبح إنتاجاتنا هزيلة لهذه الدرجة،أو على الأقل جلها.وللأمانة أنا لم أتابع كل الإنتاج الفني خلال هذا الشهر المبارك ،وليست هذه مهمتي بالدرجة الأولى ،فللفن نقاد ومتتبعون مطلوب منهم أن يسلطوا الضوء على مجموع الإنتاج الفني وإعطاء خلاصات جامعة حوله للمشاهدين والهواة من أمثالنا.لكن لا تخطيء عين المشاهد العادي الضحالة والمستوى البسيط لكثير مما عرضته القنوات المغربية شكلا ومضمونا. واضح أن كثيرا من الفنانين ركنوا إلى رصيدهم الفني يأكلون منه ويستنزفونه بشكل دراماتيكي ومحزن.فليس مطلوبا أن يكون كل الفنانين كوميديين ،وبعضهم بشكله فقط.وليس مطلوبا الإكثار من الكم على حسب النوع . لكن المؤلم حقا هو اندراج جل الأعمال المعروضة خارج منطق الحراك الذي يعرفه العالم العربي،والمغرب كجزء لا يتجزأ من هذا العالم،وافتقار هذه الأعمال للعمق وركون الفنانين إلى ما سهل أداؤه وغلا مقابله.علما أن الفن الحقيقي لا يقدر بثمن،لأنه يسعى لكي يبقى ويعمر. ولا نريد بهذا تعاليا على الفنان المغربي،ولا تجاهل واقعه ،المادي على وجه الخصوص.لكن مادام الفن رسالة وموقفا وانتماء وانحيازا ... فإن كل فنان مخير أن يختار رسالته وموقفه ،و يختار لمن ينحاز وكيف يحقق انتماءه.لأن الجمهور يحاسبه على عطائه،ومهما قدر موقفه وواقعه،فلن يغفر له السقوط في التبسيط والابتذال. خاب ظننا في كثير من الفنانين الكبار،وتألمنا لمواقفهم من الثورات العربية ،وإنه لمؤلم أكثر،تواجد كثير من الفنانين المغاربة،خارج السياق أصلا... عزاؤنا أن نردد مع فنان حقيقي كبير،هو إبراهيم ناجي : فتعلم كيف تنسى وتعلم كيف تمحو فقد يكون النسيان فنا، وقد يكون المحوُ وسيلة للتفنن أكثر ...