لكصر ، حي الملعب ، الحي العتيق ،أقدم حي، بكليميم.البطن ، الرحم ،والحبل السري ... الأن، أضحى ضمن حي سيدي الغازي . هكذا تم الاحتواء. وتحكي الحكاية ... في البدء كان الكون ، يرفد صامتا في ظلام مطبق ، لم يكن هناك أية حياة ، لاشيء يعيش او يتحرك . العالم ميت ، نائم في الظلام . جاءت لمسة الحياة، والنهوض مع بزوغ الضوء . الكون الشاسع يستيقظ ، مع شعاع الضوء . ايها الضوء السيد ، المهيمن ،انبض، الى حد الحرارة . حين الشمس استيقظت، من رقادها ، ايقظت العالم، واسقطت النعاس . جاء الماء ،و انبثقت الاعشاب ، الاشجار، والازهار ، متطاولة نحو مصدر النور .جاءت الخليقة راقصة منتشرة في ربوع الارض .. ولدت العمارة ، القرى والمدن.. ولدت كليميم ، أللبنة الاولى كانت حي لكصر . الحي الهارب من وراء السفر الطويل . او المتوجه نحو السفر ذاته . هو باق، والمسافر،زال ،و زائل رغم حالة الوصول . لكصر، حي (الملعب). ربما يعود بنائه الى زمن مدن سجلماسة ،وزيز، و تودغا. او أبعد من ذلك . ولعل تواجد الخطرات، بجانب هذا الحي ،يعطي الدليل على قدمه ... رغم ان البنايات القديمة، والتي لازالت متواجدة ، تبدو لا تتجاوز القرن السابع ،او الثامن عشر الميلادي .ورغم ذلك، فهو اقدم حي عرفته كليميم . روى اخرون ، ومن ضمن ماقيل ، أن كان لهذا الحي ثلاثة ابواب ، باب محمد ابراهيم ، باب الجامع، وباب السوك . كان يضم ملاح اليهود. محدود من الشرق بالمقبرتين الرئسيتين. ومن الغروب واد تاركى اوفلا. من الشمال ، الديار الفوقنيات اما جنوبا ، التواغيل .لصيق بالسوق الى حد التزاوج. ابحث عن صورة مثلثة الاطراف ، لاتشبه شيئا في الصورة الان . اختفاء المكان وراء المكان . كاننا نحكي عن الخيبات . نتيه في سرد ، يشبه الضجة الصامتة . نبحث في تجاعيد الارض عن ماتبقى من خيال . يستحيل دفن القلب ، في الارض بلا تمرد . المشهد يموت بين البشاعات . في زمن ليس بالبعيد عقود بقدر رؤوس اصابع اليد الواحدة ، او اكثر من نصف قرن بقليل . ماكنا نعيه من زمن ، كنا نغني ..كنا نتحدث . زمن كنا نجهل قواعده الصحيحة . كنا كالنحل ، وكان لكصر كالخلية ، كالمشهد النادر . كالخرافة تتسلل الى العواطف قبل العقول. كان كل شيء منصهرا ، فقرا وغنى . نبلا وبؤسا ، بشاعة وجمال. لوحة كلاسيكية ، تشكلت في البناء والناس.. حياة تعج بما يقرب الدم من الدم . تتوسط الحي ساحة كانت للخيل والخيالة ، وعلى اساسها سمي الملعب...وعند نهاية الساحة جنوبا ، المسجد العتيق ، تطل مئذنته ،على الحقول (( التواغيل)).في الجهة الاخرى، يتربع البرج ، برج مربع الاضلاع ، مبني من الطرش والطين، البرج لازال قائما .انه علامة ومشهد. من الساحة ،تتفرع ازقة ضيقة ملتوية ، ابواب بيوتها تفقد بريقها ،ماضية في غير سياق . تشتم فيها رطوبة انفاس البناء القديم .عند البرج ، يمتد زقاق طويل ضيق ، حين تدلف هذا الزقاق، تجد عن يمينك زقاق مغلق، لايؤدي الا اليه ، ثم عن يمينك زقاق كان به باب ، وسقيفة ، وعن يسارك اخر بسقيفة اخرى ، يؤدي الى زنقة اكيسل ،(( او زنقة الصوف..كما كانت تسمى قبلا)).هنا، يمينا ،سيأخدك المسار، الى الديار الفوقنيا ت ، او واد تاركى اوفلا . بينما يسارا ،فرحبة السوك _ ((رحبة الزرع))، و ملاح اليهود ... البيوت لها طابع معماري قديم ، الجدران شاهقة بلا شبابيك ، مدهوكة بالطين ، ملساء او خشنة ، سقف غرفها من قصب وخشب ، وغالبا من فلق جدوع النخل ، كانت هده الغرف خالية من الاثات والزينة ،جلها ، مفروشة بحصير اصفر ، طالع عليه القدم ،او زرابي صوفية حمراء اللون ، ان وجدت . الاواني والمصنوعات والادوات ، ذات وظيفة حياتية يومية وحضور معاش ،. بسيطة كل البساطة، لا ترف ولا بدخ. الحياة لم تحكمها الوفرة ولا التصنع ،. اغلب البيوت بسقيفة ، او باحة للبهائم والماشية . ربما دكة او مربط .اغلب ا لابواب متميزة بحجمها الكبير او بباب الخوخة . مفتوحة على مصراعيها ، لداخلين والخارجين .وللوافدين والمغادرين . كانت الساحة للعب ، وللمتفرجين على منظر النهار .للمارة والدواب ، رائحة الدخان ، الخبز والقطران ، ورائحة روث الابقار والماشية ،الاطفال يمارسون العابهم الجماعية .تتعالى اصواتهم الطفولية . الرجال بعمائمهم البيضاء او السوداء ، والنساء تراهن في لباسهن الاسود اوالازرق ، القلب على القلب ، والفرح على الفرح، والحزن وعلى الحزن . لم يسكن الحي هاجس الخوف من الزمن ، كان للجيرة معنى ، لم تكن للفردانية السلبية وجود . بل اشكال التضامن، قوامها التعاون والترابط .كان المكان ،يعج باهله وناسه ، باسطا وهجه ونشيده . ان للمكان علاقة بالانسان ، خصائص مشتركة . الساحة بها صفان متقابلان من واجهات الدور ، فرن الحي وحمامه ، وانت تقابل المسجد ، في الركن، عن يمينك ، زقاق يلتوي نحو السوك ، وايضا زقاق اخر ، يؤدي الى السوك او التواغيل ، بينما الذي يسارا، يؤدي الى المقبرتين ، هناك يرقد البناؤون . اولئك الموتى ، الذين لم نراهم ولم نسمع عنهم ، كما يرقد من عرفناهم وعايشناهم . هناك تسقط الحدود، وتتسع الافاق ،الى ما لا نهاية ، يتجاور الاحياء والموتى .كأن الافاق اللانهائية، تحيط بدنيا الاحياء، احاطتها بدنيا الموتى . السلام عليك ايها الموت ، لكن للقبور للغة اخرى ، فلا هي اصوات ولا ايماءات. رؤى الوجدان، لا يخالطها نقص ولا تشوه .فالحياة ،شديدة الهشاشة امام الموت. والبقاء للاصلح . (( اتذكر تساؤل قيس بن ساعد الايادي ، زمن الجاهلية... قوله =" ان في السماء لخبرا ، وان في الارض لعبرا ، مابال الناس يذهبون ولا يرجعون؟". هكذا تضرب الحياة، كل انسان وكل جماعة، في انبل خصائصها . فبقدر ماهناك كتاب مقدس ، لابد ان هناك كتاب، مدنس ملعون . لكصر ،او حي الملعب ،كما عرفته ، ياتي مع الذكريات الصاخبة . الذكريات تتجمع في دواخلنا ، لا ندري كيف نسميها ، لان هذا الحي /المكان ، اخذ الكثير من افراحنا واحزاننا . وفر منفلتا من حياتنا بلا وداع . او بلا انتباه . لم يعد كما كان ، كل شيء لا مسته انامل التغير والتبدل . اللعنة التفت حوله ، وخاضت حربها وخربت ، العلاقة بين العلاقات . دمرت الفرق بين الفروق . كأنها الريح الخائنة، ترغم النوافذ، والعبون على الانغلاق .فهل يكفي ان نقبل باعتذار من الزمن الافل ، والراس اشتعل شيبا . والقسمات تغيرت الى حد الدهشة . هل نقبل باعتذار يعاني الهشاشة والخلل. الاعتذار ، اكثر الكلام بشاعة ، لانه لايضيء القلب ولايعطي لوعة ولافرحا. قد يقدم مبررات ، وقد تتراكم الركاكة امام الصمت ، واللاشيء . هاهو الحي في جغرافية المكان ، ولا جغرافية للقلب، المطمور بالاغتراب . تضيع مفاتيح الترحيب ، نبدو غرباء جاهزين لسوط الحيرة ، ونندفع للاستسلام ، للممكن . كنا هنا .. كنا جميعا ، وهذا الحي يخوننا ، كاننا لم نكن يوما هنا . الشيء ونقيضه يحتدم ، كالفصاحة التي استبدلت بالركاكة . مأخوذ بالحنين ، الحنين ، يحول المكان الى جسد ممتنع ، ممنوعا من الاستدراك ، مجهولا ، حنين مغلف بما يشبه الاسطورة ، واقع لم يعد قائما ولا حاضرا ، وهمي ، او مفقود بين مسارات الرغبة ، واستدراكات الذاكرة . مقتضب الى حد تمدد النظرة الممزقة . نجتاز الانشاء، والجغرافيا بعدد الابعاد . نتيه في هلوسات ،تعاني قروح الغياب . كان هذا المكان كبيرا علينا ، منه انطلقنا نحو كل هده المسارات . ومنه انطلقنا الى سؤالنا الاول . سؤالنا الجماعي المحاط بالصبا . من هنا انطلقنا في اول الخطوات ، من هنا بدات خطوتنا الاولى، واخذنا اول الطريق .فلا احد ينسى ،قصته ولا ماضيه . ايها الحي البعيد ، او ماتبقى من صور ، او مساحة لا تقبل الالغاء . ها نحن في زمن مأزوم ، كأننا نعود للبديهيات ، ونبلغ قرار السديم ، هزيمة الفرد والجماعة، نلمسها في منطق اليومي، يتكاثر الانفصال ، ويقل الاتصال . نتنكر لك ، فالعلاقة فردية ،تفقد المفاهيم دلالتها . ونختصر الحديث في اللغو .تبدو التمثلات خاطئة الى درجة الصفر . ترحل حياتنا دوننا ، تنتقل المعركة الى مكان اخر ، وزمن اخر ، نهجر غبار الماضي ، ولايبقى لنا سوى الاسف الابدي ، كأننا عشاق فقدنا العشق ، انها الاعاصير بلا هواء ، تدفعنا بعيدا في الخيال . الحياة تجربة تعاش ، الحياة مغايرة . فالفارق بين حياة وحياة ، الثمن المدفوع لاجلها ، من يرشدنا ، خارج هذا السجن، الدي نسميه انفسنا ؟.فالرحلة وان كانت قصيرة ، او طويلة ، في هذا الحي اتسمت بصفات ،تحتاج للاستعارة والشعر ، كي نرتبها . لكصر/الملعب ، ينتمي لزمن نجهله ، يبزغ في الحلم او في الحقيقة ، كطائر متشرد من اخر الافق ، نراه اليوم ، فتلتم اسرير الوجه ،كمن يملاء اطرافها الذهول ..ايها الحي ، المهدد ، المعاقب ، المؤلم ، النائم ، المحزن ، المستحم بالنظرة والندى ، لك ، ولكل من عاش او مات او يحيا فيك ... لك ولكم أكتب، شيئا من دفيء القلب.