* من يوميات مدرس في أسرير. كلميم في 17/02/2011 عندما يذكر أحدنا " الفضيلة"، فإن الذهن لم يعد يتجه صوب محاورات أفلاطون الشهيرة في الأخلاق و هي تبحث في المفهوم، بقدرما أصبحت مخيلاتنا تستحضر قرية صغيرة جميلة و هادئة..اسمها" أسرير". أسرير التي استطاعت أن تخرج " الفضيلة" من سجنها الضيق، حيث هي فضيلة إنسان فرد يمتاز عن غيره بأخلاق فردية تصنفه في دائرة الصلاح، لتدخلها إلى فضاء أرحب، حيث الفضيلة هذه المرة تصنعها الجماعة و ليس الفرد..إنه تدشين لبعد مجتمعي في الأخلاق، لم ينل حظا كافيا لا في تحليلات المختصين، قدماء كانوا أو محدثين، و لا في ممارساتنا اليومية المختلفة. و إذا ما وضعنا جانبا مختلف التأويلات التي قد تختزل هذا الحدث في الحسابات الشخصية للأفراد، دون أن نبخسها حقها من المعقولية، فإن الموضوعية تحتم علينا أن نعترف لهؤلاء الأفراد بمشروعية مطلبهم، وقياسا على ذلك، بمشروعية كل اجتماع بشري يرفع أعضاؤه أصواتهم عاليا ليقولوا :" نريد مدرسة لأبنائنا". يسفر الصباح الهادئ في قرية أسرير، و منظر تلامذة يحملون حقائبهم المدرسية..يمرون في طريق غير معبدة وضعت على جانبها لوحة كتب عليها: " ثانوية الفضيلة"..فتسير في تلك الطريق..ثم ،على مسافة غير طويلة، تتوقف أمام مبنى يحيط به جدار قصير كتب على مدخله اسم الثانوية. عندما قدر لي أن أنتسب إلى هذه المؤسسة التربوية مدرسا و مساعدا لطلبتها على التعلم و طلب المعرفة، كنت كمن يقف متأملا و شاهدا على بقايا ثورة أنجزت و لم تنجز مهمتها..كدراجة هوائية توقف راكبها عن تدوير العجلة فجأة..اختل التوازن..فكانت السقطة. تتملكك حسرة و غيرة، و لكنك سرعان ما تكتشف أن غيرتك، و إن كانت ضرورية، فإنها غير كافية..فدروس التاريخ تعلمنا أن الحق لا يستجيب إلا لصوت أصحابه، فهو وحده القادر على الإسماع، و هو الأقدر على أن يكون أكثر إخلاصا. طلبة ثانوية الفضيلة، وهم كغيرهم من الشباب، تتوزع انتماءاتهم و اهتماماتهم بين فرق كرة القدم المحلية و الإسبانية، و بين أسماء اللاعبين و الممثلين ذوي الجنسيات المختلفة، و كذا بين سراويل الجينز الضيقة و تقطيعات الشعر الغريبة.هؤلاء الطلبة حرموا من حلم إصلاح توقف في منتصف الطريق..حلم تخلى عنه أصحابه ولما يكتمل نموه بعد..فكان الفراغ الذي ينتج العدم. صحيح أن ثانوية الفضيلة لم تكن وليدة تخطيط تربوي تشاركي متكامل و بناء على خريطة مدرسية مندمجة قائمة على معايير علمية و تربوية واجتماعية عقلانية، و على اختيارات سياسية واضحة الأهداف و المصالح و التوجهات*، و لكن في المقابل، ليس هذا مبررا معقولا لأن يتخلى المجتمع الأسريري ، و الخطاب موجه هنا بالأساس لجيل الشباب المثقف، عن رعاية هذا المشروع الجنين، و ينسحب بالكامل، دون أن يمارس حتى أبسط أبجديات المراقبة و المسائلة التي خولها له القانون ليتابع المسا ر الدراسي و التربوي لطلبة هم بذور لملامح مستقبلية لمجتمعهم الذي من المفترض أن يكون مجتمع المعرفة و التربية و التنمية الإنسانية. هكذا تفتح الفضيلة بوابتها الصدئة كل صباح، على جدران صماء و قاعات للدرس خاوية على عروشها إلا من مقاعد يتيمة يقولون إنهم أخذوها على سبيل الإعارة من مؤسسات صديقة!..سبورات خشبية متآكلة يعتذرون لأنهم بحثوا و لم يجدوا لها بديلا..و عندما تتجول في أروقة المؤسسة، تفاجأ بأنه لا توجد مكتبة و لا قاعة للمطالعة! أليس معنى ذلك تكريسا مؤسسيا، في هذه الحالة، لتغييب المطالعة و القراءة الحرة الهادفة من برنامج متعلم يفترض أنه في مدرسة القرن الحادي و العشرين التي تزوده بكفايات ينفتح من خلالها على آفاق معرفية و مهارية غير محدودة، و ليس مجرد اختزال دوره في تلق جاف و ممل للمعارف المجردة. لهذا كان طبيعيا أن نعاني و طلبة الفضيلة من مشكل تعثرهم في امتلاك الآليات الضرورية للقراءة النقدية و التحليل . ثم إن المؤسسة لا تتوفر على أدوات و وسائل بيداغوجية أصبحت في وقتنا الراهن على درجة كبيرة من الأهمية، إذا ما أردنا الحديث عن درس يتجاوز أطره التقليدية المغلقة إلى أطر تستجيب لحاجيات المتعلم و تواكب التحديات الخارجية. كيف سنبدع إذن في تعليم " حديث" نفتقر فيه لأبسط المعينات..ففي الوقت الذي منحت فيه مؤسسات التعليم منحا مالية متواضعة قصد تغطية حاجاتها الملحة على الأقل، لم تنجح الفضيلة في توفير تلفزة لمتعلميها و لا حواسيب متحركة أو حتى ثابتة و لا أجهزة صوتية نستعين بها في الأنشطة التربوية المفتوحة لعموم التلاميذ...ثم يستمر الفراغ يلقي بظلاله على مختلف المجالات..لا توجد قاعة للصلاة بالمؤسسة، و هذه رسالة أخرى نقرأ فيها انتهاكا للقيم الدينية و العقدية التي تعتبر في الفلسفات التربوية التي تحترم نفسها الأرضية الصلبة التي تقوم عليها، ليس فقط مشاريع تربوية، بل أكثر من ذلك مشاريع مجتمعية كاملة. ليس مستغربا إذن أن تملأ الفراغ الذي تصنعه مؤسسة للتربة و التعليم، كالفضيلة بأسرير، اهتمامات تحرك و تدغدغ، في شريحة اجتماعية خاصة كالتلاميذ، العواطف و الغرائز عوضا أن تلبي حاجاتهم الحقيقية من معرفة و أخلاق و تربية. يؤسفني حقيقة في الأخير أن أقول ...كم كانت متواضعة جدا..نتائج ثورتك يا أسرير.