بعد سقوط بغداد في أيدي القوات الأمريكية بتاريخ 09 أبريل 2003، بدأ مسلسل تدمير الدولة العراقية، بداية بالمؤسسة العسكرية، فالبنيات التحتية، والكوادر العلمية، ثم الاقتصاد وأخيرا البنية الاجتماعية والهوية الوطنية العراقية المتنوعة الأطياف؛ أو بالأحرى المختلفة الطوائف. بعد نقل السلطة للعراقيين (الشيعة والأكراد بصورة خاصة)، بدأت الهويات القاتلة والمنتحرة في نفس الوقت، مسلسلا من الاقتتال حول السلطة والثروات والنفوذ ومحاولة فرض الأيديولوجية الخاصة بكل جهة، على باقي الشعب العراقي، في نوع من التراجيدية السياسية السمجة والمدمرة كذلك، ليظل العراق؛ ومنذ التاريخ القديم، أرض الشقاق والنفاق والنزوات السياسية والطائفية والدينية ونهب الثروات الوطنية. وباسم الدين (ولكل طائفة في العراق دينها)، تتصارع الدول الإقليمية على العراق، أما الشعب العراقي، فليس له من الصراع إلا الدمار والتشريد وجنة لكل شهيد (وكل قتيل في العراق شهيد لدى طائفته). في مسلسل صراع الأيديولوجيات السياسية، والمغلفة بالطابع الديني والطائفي، تدمر دول بكاملها، بسبب أو بدون سبب، في محاولة فرض السيطرة والنفوذ في مناطق الصراع؛ سواء في الخليج أو الشام أو شمال إفريقيا. انطلقت ثورة الشباب اليمنية، أو ثورة 11 فبراير 2011 للمطالبة برحيل الرئيس علي عبد الله صالح، الذي ظل رئيسا لليمن لمدة 33 سنة، ولم يغادر السلطة إلا بعد أن أصبح جسدا مشويا، ليعالج من حروقه في المملكة العربية السعودية. يعود الرجل إلى اليمن ليتحالف مع أعداء الأمس الحوثيين (الشيعة)، ضد الرئيس هادي وضد السعودية كذلك. يسيطر الحوثيون على العاصمة صنعاء، وبالتالي على السلطة ، لتتدخل السعودية وحلفاؤها فيما عرف بعاصفة الحزم. وتتحول المدن اليمنية إلى أطلال باسم الصراع السني الشيعي، أو السعودي الإيراني. وانتشر الدمار في جل مناطق اليمن، لتتحول الأحلام الثورية للشعوب إلى كوابيس يومية وحقيقية، تتجلى أكثر في آلاف المشردين، الذين لا يجدون لا المأوى اللائق ولا الطعام الكافي ولا حق اللجوء في دول الجوار العربي. هذا الصراع، المسمى زورا بالصراع السني الشيعي، سيجد في سوريا أرضية خصبة لمحاولة السيطرة على المنطقة، في السعي لإعادة تشكيل خارطة النفوذ السياسي والاقتصادي في المنطقة العربية. وستلعب أموال البترول العربية والإيرانية دورا مهما في تفجير الصراعات الإقليمية بالدول التي مرت بما أطلق عليه الربيع العربي، الذي انطلق من تونس في 18 ديسمبر 2010، ليشمل مصر وليبيا والبحرين وسوريا واليمن. ولا شك أن الخوف من امتداد الثورة إلى دول الخليج، وأنظمتها القمعية والشمولية، كان سببا رئيسيا في تدخلها في دول الربيع العربي، في محاولة للحيلولة دون انتقال السلطة بشكل ديمقراطي بعد قيام الثورات. فهي تساند الثورة في دول وتنقلب عليها في دول أخرى، وهي نفس السياسة التي تنهجها إيرانوتركيا مع دول الربيع العربي. فدولة الملالي، ومنذ قيامها سنة 1979، وهي تبذل كل جهدها لبسط نفوذها على المنطقة العربية، في محاولة لتشكيل خارطة إسلامية جديدة تلعب فيها إيران دور القائد، في محاولة غير مباشرة لتصدير أيديولوجيا الثورة الخمينية الشيعية الإمامية للدول العربية ذات التوجه الأيديولوجي السني. لكننا لا نشك أبدا أن الأيديولوجيتين معا، لا تعدوان أن تكونا حكما ديكتاتوريا استبداديا، باسم الدين ودعوى طاعة الإمام في المنظومة الشيعية، أو طاعة ولي الأمر في المنظومة السنية. أليست الثورة حرية؟ أليست الطاعة لولاة الأمور عندما يستقيمون فقط؟ أتكون الطاعة حتى لو جُلِدت ظهور الشعوب وأُخِذت أموالها؟ إن تدمير البنيات التحتية للدول، وتشريد مواطني هذه الدول باسم الثورة أو الثورة المضادة، أو باسم دول الممانعة أو تحت أي مسمى كان، لا يمكن إلا أن يدخل في إطار حرب إبادة للمدنيين، والذي تعدى في سوريا لوحدها أكثر من 200.000 قتيل. وعلى الشعوب أن تطالب الدول المشاركة في هذه الجرائم؛ سواء إيران أو السعودية أو الإمارات أو قطر أو تركيا أو روسيا، بتعويضها عن الأضرار التي لحقتها، حالما تستقر الأوضاع في هذه الدول، وإن استدعى الأمر رفع دعاوى أمام محكمة الجنايات الدولية، لأنه ليس من المبرر أن يقتل المدنيون، في صراع أيديولوجي أحمق باسم الدين أو المذهب أو محاربة الإرهاب، بينما الجميع يعرف أن حرية الشعوب هي آخر ما يمكن أن تفكر فيه هذه الدول والأنظمة الأرثوذكسية الفاشية. إن أي ثورة للشعوب على حكوماتها، يجب أن تظل ثورة داخلية محضة، ولا يجب بأي وجه كان، أن تتدخل فيها أي دولة أجنبية أخرى بأي مبرر من المبررات. لقد شهد القرن الماضي ثورات عدة لإسقاط أنظمة ملكية، نجحت في مصر والعراق واليمن وليبيا والسودان وتونسوسوريا، لتتحول هذه الدول مع الثوار إلى جمهوريات ملكية بامتياز. وها نحن الآن بصدد ثورات ملكية، لإسقاط أنظمة جمهورية (منتخبة بأي شكل من الأشكال). لكن الدول العربية لا تحظى أبدا إلا بأنظمة ديكتاتورية، سواء كانت ملكية أو جمهورية. وستظل الصور العملاقة للزعيم والقائد، في الساحات وعلى واجهات البنايات العمومية وداخلها، رمزا لاستبداد شخص بأمور الملايين من الرعايا – حتى لا نقول مواطنين – ملكاً كان هذا الزعيم أو رئيساً أو أميراً، لا يهم. والسؤال الملح هو: هل الشعوب الإسلامية بصفة عامة، والعربية بصفة خاصة، كائنات لا تستطيع العيش إلا تحت الحكم الديكتاتوري والشمولي؟ ستظل قوافل اللاجئين السوريين في الأردنوتركيا ولبنان وأوروبا الغربية، وصمة عار على جبين دول الخليج العربي وإيران. وستظل هذه الأجيال من اللاجئين، تتذكر بكثير من الغضب، أن الدول التي تساند أطراف الصراع على السلطة والنفوذ في سوريا، لم تبذل جهدا كبيرا لإيواء هؤلاء اللاجئين على أراضيها، وستظل كذلك تتذكر بكثير من المرارة، أن هذه الدول كانت السبب المباشر في فقدانهم لعائلاتهم ومساكنهم ومصدر عيشهم في الوطن المخنوق من المعارضة والنظام ومن يدور في فلكهما، أو بالأحرى من تدور المعارضة والنظام في فلكهم.