شكل حفل التوشيحات الملكية لمجموعة من المقاومين وأعيان قبائل الصحراء، حدثا استثنائيا بكل المقاييس، زاد من استثنائية الحدث التاريخي الذي تشهده الأقاليم الجنوبية، بالزيارة الملكية لهذه الربوع من المملكة. حدث أكد فيه جلاله الملك محمد السادس على عناية مولوية سامية خص به أبناء الصحراء الوطنيين، بأوسمة ملكية من درجة قائد. لكن للحدث استثنائيته الخاصة، حينما اختارت مديرية التشريفات والأوسمة، بإيعاز من تقارير جهات لها مصالحها الخاصة، التي دافعت عنها، في مقابل إقصاء أسماء وطنية خالدة في تاريخ النضال من أجل تحرير الصحراء، لتقديمها للملك قصد التوشيح، متناسية أن الملك، هو ملك الجميع. لتضرب بذلك رمزية الوطنية الصادقة لقبائل صحراوية اختارت منذ القدم خيار الوحدة الوطنية. ومن بين هذه القبائل، نجد قبائل أيتوسى، التي لم تلقى من التقدير والعرفان، لما قدمته من تضحيات جسام في سبيل الدفاع عن وحدة الوطن، سوى جعل أحد رموزها، أخر اسم في لائحة لم تتوفر ولا على اسم واحد من رجالات المقاومة والكفاح في جيش التحرير. سوى رجلين من كبار أفراد الجيش، الذين قادوا حرب الصحراء دفاعا عن الوطن. حدث لا يمكن أن يمر مرور الكرام، لما حركه من مشاعر الأسى في الوجدان. حدث لابد أن نقف عنده وقفة تأمل واستحضار لتاريخ أمجاد رجال، صنعوا التاريخ فنسيهم الحاضر. إنها قصة قبيلة أخلصت للوطن فنسيتها الدولة. إنها حكاية قبائل أيتوسى التي تأبى النسيان. فقبائل أيتوسى، هي قبائل محاربة ميزتها الأساسية الحرب والغزو، ولقبوا ب"أهل المدافع" لكونهم من حملتها، وهو ماجعلهم في مصاف القبائل الصحراوية التي تمتلك السلطة والنفوذ، مدافعة عن حرمة أراضيها ابان عهد الاستعمار. ولأن للقبيلة حس الوطنية الصادقة، فقدت رفضت الانخراط في جبهة البوليساريو منذ تأسيسها، حينما لم تلبي دعوة المشاركة في مؤتمر "بوخشيبية". لتختار أن تكون من أوائل القبائل الصحراوية التي انخرطت في المسيرة الخضراء بحشودها الجماهيرية، ملبية نداء الحسن بطواعية واخلاص. قبيلة أرضعت لبن الوطنية لأبنائها، سيرا عن نهج أبائها وأجدادها. فعبئة أبنائها من أجل الالتحاق بكتيبات الجيش والانخراط في صفوف المخزن، دفاعا عن مقدسات الوطن. قبيلة لم ينصفها كفاحها ضد الاستعمار، ولا ما قدمته للدولة من رجالات أحرار. قبيلة ليس لها اليوم سوى مدينة مهمشة البنيان، تعاني فيها قساوة الأرض والمناخ في أراضي الصحراء الوعرة. قبيلة صنعت أطرا وكفاءات بعرق أبنائها ودماء أبائها. قبيلة لم تلقى الاهتمام من دولة أقصتها من تعيينات العمال، والمناصب العليا في سلم البلاد. فكانت دوما تقبل بقدرها لأن حس وطنيتها لا يقدر بالامتيازات أو الأثمان. قبيلة يحكي التاريخ أمجادها، الذي كتبته بدماء شهدائها، في أراضي الحمادة المنبسطة، وجبال الأطلس الوعرة. قبيلة اختارت أن تسكن الأكواخ الطينية مرابطة على الحدود المغربية، تاركتا رغد العيش الكريم في البوادي وحياة النعيم في المباني، لا لشيء سوى دفاعا عن أمن الوطن. ليأتي يوم تتنكر فيه الدولة لكل تضحياتها، التي قدمتها بدمائها، تاركتا أسر بأكملها تعيش على راتب أراملها ومتقاعديها، الذي لا يتعدى الألف درهم، في الوقت الذي نجد فيه من يتقادى ألاف الدراهم، دفاعا عن نفس القضية الوطنية. وهو ما يجسد سياسة الدولة، التي اختارت تهميش قبائل واد نون، لا لشيء سوى لأنهم لا ينتمون لأرض النزاع. نعم انه منطق الدولة التي نسيت حرف "الميم" في مغربها، لتنطق "الصحراء الغربية" بمعانيها، لما يحمله حرف "الميم" من دلالات كثيرة (معايا، مضمون، منسي، مهمش، ...). وهو المنطق الذي جعل أبناء أسا المجاهدة، ينتفضون في أكثر من مناسبة ضد كل أشكال التهميش والتفقير. وهو نفس المنطق الذي جعل أبناء القبيلة وأجيالها الصاعدة، يعلنون القطيعة مع زمن حمل السلح، لأنهم عايشوا تنكر الدولة لتضحيات أبائهم وشاهدوا كيف نسي تاريخ أجدادهم. أكيد أننا لا نسعى إلى إثارت النعرات القبلية، التي أشعل نيران فتنتها من قدموا تقاريرهم المغلوطة عن تاريخ كفاح أهل الصحراء، في الوقت الذي اخترنا فيه تسليط الضوء على إشكالية حقيقية، هو أن التوشيحات لم تراعي التوازنات القبلية والترابية بالصحراء، ولم تشمل بعد رموز المقاومة وجيش التحرير، ممن كتبوا أسمائهم بدمائهم الزكية دفاعا عن الصحراء. وهو ما يتطلب من الدولة اليوم، مساءلة الذات في تعاملها مع مكونات المجتمع الصحراوي، وأن تعمل على انصاف قبائل حملوا السلاح بصدق وأمانة دفاعا عن الصحراء.