يحدث في حياتنا كثيرا أن نسيء الفهم وأن نخطئ الفهم وهو أمر عادي، فقد تسمع مثلا شيئا من فلان فتظن أنه يقصد كذا فيتضح لك فيما بعد عكس ذلك فترجع عنه، فالخطأ ليس عيبا لكن العيب التمادي فيه، فتبقى مصرا على سوء فهمك رغم أنه اتضح لك بالدليل وبالواضح والملموس أنك على خطأ. ولابد أن يقع الإنسان في سوء الفهم لأنه بشر، والكمال لا يكون إلا لله سبحانه وتعالى والعصمة ليست إلا للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولأن المتكلم قد لا يزن حديثه أو قد يكون كلامه أحيانا ملتبسا أو مدعاة لسوء الفهم. ولسوء الفهم مجالات متعددة إلا أن أضراره تبقى في غالبيتها متقاربة، فهو يؤدي إلى التسرع في الحكم على الناس من خلال أفهامهم ونظراتهم وقناعاتهم، بدون إعمال للعقل والمنطق والتثبت من الأخبار. يكون سوء الفهم آفة عندما يصبح قاعدة يحكم بها على الآخرين، فيقوم بإصدار الأحكام على الناس انطلاقا من فهمه لكلامهم أو أقوالهم أو مواقفهم أو أفعالهم، فيقال هو يريد كذا ويقصد كذا ويتظاهر بكذا ويبطن كذا... وكلها أمور تتعلق بعمل القلب أي أننا تجاوزنا الظاهر وأصبحنا نصدر الأحكام على ما يخفيه أو ما يعتقده، والقاعدة الشرعية تقول: عليكم بالظواهر والله يتولى السرائر. وعندما يصبح فهمك قاعدة تحاكم بها مواقف أو أراء أو أعمال الآخرين، آنذاك يكون سوء الفهم مرضا وآفة، فمن حق الإنسان أن يفهم كيف ما يشاء، لكن يبقى فهمه له ولا يلزم به الآخرين. إن مجتمعاتنا تحتاج إلى النقد البناء الذي يعتبر من الركائز والضمانات الأساسية لحسن التدبير والرقي والتقدم، وليس إلى النقد الهدام أو النقد من أجل النقد الذي ينبني على سوء الظن بالآخر، والمنبثق من صورة سوداء متخيلة في الذهن عن زيد أو عمر من الناس، فالظن وصفه النبي عليه الصلاة والسلام بأنه أكذب الحديث، لأنه يتجاوز الكذب إلى الإخبار عن النوايا، فيجعل صاحبه يتوهم أن ظنه صدق لا ريب فيه فيصدر الأحكام ويصل إلى نتائج متوهمة أصلا، استنادا إلى خلفية سابقة مبنية على أوهام، وفي هذا خطر على الناقد لأن الأوهام تتطور أحيانا حتى تصل إلى يقين لا يناقش. ومن الغرابة بمكان أن يقوم الإنسان بنقد أمور لم يقرأ عنها ولا يعرف عنها شيئا، فكيف يمكن لمن ثقافته مبنية على قراءة المقالات أو المجلات أو الجرائد، أن يصدر الأحكام في قضايا لا يعلم عنها شيئا سوى أنه يعمل بمنهج الشك في كل شيء، فتنعدم ثقته في كل الناس مما يجعله يصدر الاتهامات في كل الاتجاهات، فعدم ثقته بالناس عموما ينتج عنها سوء الظن الذي ينتج عنه سوء الفهم، فهناك طبقات من الفهم والاستيعاب والذين لا تبلغها عقولهم يكون فهمهم سيئا. وكغيرنا من الناس لم نسلم من سوء الفهم خاصة فيما كتبناه مؤخرا من مقالات، يبدو أنها خلفت لدى البعض حالة من الانزعاج، فأطلق العنان للسانه وصار يحلل كلامنا ويؤوله على هواه ويحمله على غير محمله، وهو أمر عادي بالنسبة لنا فنحن لسنا ضد حرية التعبير، كما أننا نرحب بالاختلاف الفكري المبني على الحوار الهادئ والنقد البناء والاحترام المتبادل، ولا ندعي العصمة فما نحن إلا بشر والناس تخطئ وتصيب وخير الخطائين التوابون. لقد أساء البعض فهمنا عندما كتبنا مقالا عن المثقف العضوي، الذي يظهر أنه تخلى عن دوره وانشغل بقضايا نفعية ذاتية، وقالوا كيف يستشهد ب غرامشي...؟ ولهؤلاء نقول: إن مرجعيتنا الإسلامية النابعة من الإسلام المعتدل والسمح الذي يدعوا إلى العدل والتسامح والمساواة والرحمة، هذه المرجعية تدعونا إلى الانفتاح على العالم وعلى كل الثقافات والمرجعيات، فنحن لسنا دعاة جمود أو تزمت أو انغلاق، خاصة والعالم اليوم أصبح قرية صغيرة، لا يمكن لأي دولة أن تعيش فيه لوحدها بمعزل عن الآخرين مهما كانت قوتها، يقول الله تعالى في القران الكريم "وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا" فلا بأس إذا أن نأخذ من غيرنا ما يتناسب مع ثقافتنا، والحكمة ضالة المؤمن حيث ما وجدها أخذها، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: "المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم" ويقول كذلك: "خير الناس أنفعهم للناس"، وهي صفات المثقف العضوي الذي يخالط الناس ويلتحم بهم التحاما عضويا، ويرتبط بهم وينشغل بهمومهم ويسعى إلى خدمتهم، فالأيديولوجية بالنسبة لنا ليست قيودا تكبلنا بل تجعلنا ننفتح على غيرها من الأيديولوجيات، لمعرفتها ودراستها وأخذ ما يناسبنا منها وقبول الآخر في جو من الاحترام المتبادل، فالحق يقبل من أي وعاء خرج. يؤاخذنا البعض كذلك على نقدنا لأداء حزب المصباح ولطريقة تدبيره للشأن العام مع أن مرجعيته إسلامية، فسبحان الله فلأنه شريك في المرجعية يكون منزها أو مقدسا أو فوق النقد...! هناك فرق شاسع بين نقد التدبير ونقد المرجعية، فوحدة المرجعية لا تعني البتة التسليم وعدم نقد التدبير والأداء، إن الجميع يعلم أن الشارع العربي عندما خرج لم يطالب بتولي الإخوان أو النهضة أو العدالة والتنمية، وإنما خرج مطالبا بالكرامة والعدالة الاجتماعية، وإذا قلنا غير هذا فنحن إما انتهازيون أو منافقون سياسيون، ولكن لما وصلوا إلى السلطة فيبقون بشر مثلهم مثل غيرهم يخضعون للنقد والمحاسبة والمساءلة. إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول : "إذا رأيتم في اعوجاجا فقوموني" فلما رأينا بن كيران اعوج وانبطح للفساد في مقابل البقاء على الكرسي، قلناها صراحة ولم تمنعنا وحدة المرجعية من ذلك، لاسيما والمؤشرات الدولية تكاد تجمع على أن هناك تراجع في محاربة الفساد، فكان نقدنا لرئيس الحكومة بصفته المؤسساتية والدستورية وليس بصفته الشخصية أو الحزبية، وأما إهانته للمعطلين ووصفه لهم بأن عندهم خلل في الدماغ، فما كنا لنسكت عنها أبدا والكلام يعنينا بالدرجة الأولى، ونحن ننتمي إلى إطار عتيد معروف بنضاله من أجل الحق في الشغل الذي يضمن العيش الكريم وسيظل كذلك، فكان ردنا قمة في النقد البناء وقمة في التحضر وغاية في النضج والعقلانية. ذلك بيان لمن أساء فهمنا والتبست عليه مقالاتنا، ومن ما زال يعيش في زمن الحرب الباردة نقول له أفِق من سباتك العميق، فعملنا لا يعدو كونه نقدا للتدبير والممارسة السياسية، أما من أراد النيل منا والضرب في مصداقيتنا لدى الجماهير، فنقول له: إننا مخلصون لمبادئنا وقيمنا وأوفياء لوطننا، مستمرون في نضالنا من أجل الحق في الشغل الذي يساوي الكرامة، بالشكل الذي يكفله الدستور والقوانين والمواثيق الدولية.