تخوض هيئة الإدارة التربوية بكل تشكيلاتها منذ بداية شهر مارس الجاري، برنامجها النضالي الوطني تحت شعار اللاعودة، احتجاجا على صم الوزارة لآذانها تجاه الوضعية الهشة لهذه الفئة، خاصة ما يرتبط بالجانب المعنوي منها، والمتمثل في تمكينها من إطار خاص يتيح استقرارها النفسي والمهني أساسا. لن أخوض في الملف المطلبي المشروع لهذه الفئة، لكن أريد أن ألفت الانتباه الى مجموعة من الإشارات المستترة التي تتخفى وراء زخم الحضور الوازن للمعنيين، والنسب العالية للانخراط في البرنامج النضالي. أولى الإشارات الدالة – التي لن تخطئها عين كل من زار المعتصمات وطنيا – هي تعدد الأجيال المنخرطة في هذا الشكل النضالي المتحضر، إذ يمكن الحديث عن ثلاثة أو أربعة أجيال من أُطر الإدارة، يناضلون جنبا إلى جنب، وهي إشارة جميلة توحي بتوريث شعلة الاحتجاج والنضال التي طالما استعملت كل الوسائل لإخمادها على مدى عقود من الزمن. لكن ثمة إشارة أجمل من الأولى، وهي أن تجد في الصفوف الأمامية من لا يفصلهم عن التقاعد سوى أربعة أشهر، ولن يحظوا بأية استفادة مادية او معنوية مما سيتحقق! وهو لعمري درس من شيوخ التربية في النضال والبذل من أجل الغير، ورسالة سامية مفادها أن النضال والاحتجاج وما يستتبعه من تضحية، ليس مشروطا بالاستفادة الشخصية المباشرة، وفي الأمر ما فيه من إحياء قيمة التكافل، التي قام عليها العمل النقابي منذ أول يوم، ولم يتراجع الفعل النضالي إلا حين استفحل الانشطار والتفييء، وهي نتيجة طبيعية لقيم الفردانية وما أورثته من علل سلوكية في المجتمع. ومن الدلالات العميقة لهذه النضالات، القطع التام مع الصورة النمطية لرجل الإدارة التربوية "المحايد" الذي لا شأن له بالفعل النقابي، ولا تتجاوز مهامه محاسبة الموظف إداريا على إضرابه، وإخبار المسؤولين بقطاعي التعليم والداخلية عن لوائح المضربين ونسب الإضراب، وهو سلوك ذو دلالات ضمنية عميقة، خاصة لدى الموظفين الجدد، أقلها الإعلاء من شأن الحياد السلبي، وذم الانضمام الى التنظيمات النقابية. إنها حقا نضالات ملهمة وملاحم بطولية سواء منها الممركزة بالرباط أو المنفذة بالأقاليم، وجب صَونها من سهام التيئيس وعبث المخذلين، الذين لن يغمض لهم جفن إلا إذا دب القنوط الى هذه النفوس التواقة للكرامة لا غير، لأنهم يدركون أن نجاح هذه النضالات في تحقيق المبتغى منها، سيبث في كل مكونات القطاع جرعات الأمل في التغيير، وقبلها قيم الوحدة والتكافل والاستماتة. فكل التحية لهؤلاء الرجال -ذكورا وإناثا- على ما يسطرونه من ملاحم، سيسجل التاريخ يوما أنهم أسسوا لبعث جديد وحراك قطاعي لن تتوقف ارتداداته إلا بإقرار الكرامة الحقة، والقطع مع كل أشكال الهشاشة، وهو وحده الضامن لاسترداد الأسرة التعليمية لدورها التاريخي، قائدة للمجتمع في معاركه، وفي مقدمتها معركة الإجهاز على المدرسة المغربية، وجعلها آلية للتدجين وقاطرة للتطبيع. وما ذلك على أسرة التعليم ببعيد.