لا نختلف بحال من الأحوال حول أن حب المال طبيعة إنسانية وواقع بشري. لكن يبدو أنه يفوق عند البعض كل التقديرات، ويتعدى كل الحدود المسموح بها ، إلى حد يتحوّل من كونه إحدى وسائل التمتع والاستمتاع ، كنعمة وحق مشروع يتم توظيفه ايجابا ، وتقاسمه مع الآخرين بالقدر المتاح، والممكن والمعقول من العدالة والمساواة ، إلى إله ومعبود ، يبالغ الكثيرون في عبادته وتمجيده وكنزه في الخزائن والصناديق، فيصبح قيدا أعمى وسلاسل خانقة معرقلة لكل تنمية. فتنقلب موازين الحياة ومكاييل المنطق ومقاييس الضمير ويتم تغليف القيم و الأخلاق الإنسانية بما يتناسب والطمع الذي جبل عليه الإنسان، فيبالغ الناس في عبادة المال بادخاره وكنزه وحبسه في الصناديق. ويأكل الإنسان أخاه بمسميّات مختلفة وذرائع زئبقيّة مقنعا نفسه بأنّ ما يفعله حنكة وحذاقة لا يتقنها الكثيرون! فينتفي الصدق وتموت روح الصفاء، وتختنق المودة، وتحل الحسابات القائمة على المصالح المادية المجرّدة من العواطف حتى بين اقرب الناس..لأن للمال قدرة خطيرة على استيطان مراكز التفكير والوعي واللاوعي، واختراق العقل وتجميد القلب والحس الإنساني الصافي، وتغييب الضمير والمنطق، وتحويل الإنسان إلى ما يشبه الروبوهات المتطورة التي لا تخرج عن مساراتها المحددة ، والخطوات المطلوبة منها انتباعها، فتعمل بكل طاقاتها وقدراتها المكرّسة والمسخرّة لخدمة سيد واحد لا شريك له هو المال.. وكلما تضخم المال وانتفخ ازداد الطمع وفتح المرء ذراعيه للمزيد من الأملاك و الأراضي والعقارات والأرصدة المعلنة منها والسرية، وسقطت عنده كل الحسابات إلا المادية منها، لأنّ المادة حين تطغى على نسق وأسلوب الحياة ومنهجية التفكير وترتيب الأولويات تجمّد دفء العلاقات الإنسانية وتقتل فيها الصدق والعفوية و روح الصفاء وفي هذا الغمار و ذاك الانشغال بخدمة السيد السائد، قد يهمل الإنسان نفسه وبيته وأسرته واقرب المقربين له ويتركهم يتجرّعون الجوع العاطفي والحرمان الذي لا يتخذ الشكل المادي دائما، بل إن هذا العبد المملوك للمال ينسى أن ينظر لنفسه فيأكل أيامه مجترّا الماضي المليء بالمكتسبات متطلعا للآتي القادم بالمزيد، يكدّس ما لديه ويتمسّك بأذيال حياة متناسيا بأنها فانية حياة خاوية إلا من هواية ، بل غواية ، يحاول إخفاءها وتمويهها عن الآخرين. وقد يفقد عبد المال السيطرة أو التحكم في أفكاره وتصرفاته التي لا تصب إلا في مجرى واحد ووحيد هو جمع المزيد وتحصيل ما أمكن حتى لو سرق خبز الآخرين تحت مسميّات تجارية أو اجتماعية أو فكرية أو سياسية...لا يهم المسمى ، بقدر ما يهم النتيجة، فهو يتمسك بما يتناسب وشهيته التي لا تعرف الشبع ، ولا مقدار الطمع الذي عليه أضاع حدود الشرع والضمير والعدالة والمساواة، فيحلل ما شاء، ويحرّم ما جاء متعارضا مع هدفه، ويسنّ قوانينه التي أهمّها ما يؤكد بأنّ سلوكه صحيح وعادل، ولا يهمه أن يتجرّع الآخرون مرارة الألم والجوع والإحساس بالغبن مادامت خزائنه قد امتلأت ... هناك في بلادنا الكثير من هذا الصنف المتنفذين من الناس نشأوا نشأة عادية، وعاشوا حياة أقل من عادية إلى أن ابتسم لهم الحظ فصاروا أثرى الأثرياء. بل مليارديرات يسكنون القصور ويقضون أجازاتهم في المنتجعات السويسرية والشواطئ الباريسية ويتوسدون ريش النعام ويلتحفون بالحرير والديباج وينعمون بخيرات البلاد بلا خوف أو وجل.. فهل نحلم عندما نطالب بالتدقيق في أملاك بعض هؤلاء الذين تمرغوا في ثروات البلاد بعد أن كانوا معدمين. أم أننا نهلوس عندما نطالب بإعادة بعض من تلك الأموال المختلسة لحياض المال العام؟! سؤال نوجهه للجهات الرقابية والإصلاحية في البلاد التي ستظل يدها مغلولة عن محاسبة هؤلاء وغيرهم في غياب تطبيق تشريع »من أين لك هذا؟« الذي لم يطرح بجدية بعد، رغم أهميته والحاجة إليه. [email protected]