ما كنت في يوم من الأيام أتخيل أن تصير الأمور إلى ما نعيشه من واقع مرير، ومأساة مروعة غير مسبوقة ، جراء الكم الهائل من الفتن المتلاحقة والمتداخلة التي أصبحنا ننام ونصحو على ما تطل علينا به وسائل الإعلام المختلفة أنواعها صبح مساء ، من أخبار حوادث النكد ، وأخبار الفواجع والهم ، التي لا شيء منها وفيها يسر القلوب أو يفرح النفوس ، بل كلها تدميها وتقرحها ، وتملأ البلاد بالأسى واللوعة من طنجة إلى الكويرة ، ومن بين تلك الأخبار المقرفة ، التي عصفت ببلادنا مؤخرًا ، ما اصطلح على تسميته ب "فتاتي إنزكات" ، الذي أثار لغطا وجدلا لم توقف إلى الآن ، حيث هاجم مجموعة من تجار سوق "إنزكان" القارين منهم والجائلين متسوقتين ، مكبرين مهللين ضاربين شاتمين ، دون سند شرعي و قانوني ، لمجرد أن الفتاتين كانتا بأ"الصاية" التنورة ، وبعدهما بأيام قليلة ، وفي سوق آخر من نفس المدينة ، رجم زملاء لهم في الله ، عفوا في التجارة الجائلة ، إعلامية بالطماطم ، لا لشيء إلا أنها سافرة الشعر ، وبعد ذلك بوم أو يومين ، وفي مدينة فاس التاريخية ، التي حملت في زمن ما لقب "العاصمة العلمية للمملكة " تعرضت مجموعة بلا هوية ، لمثلي ثلاثيني ، بالضرب والتنكيل ، مازجين التكبير بمقولات الجهالة الفجة على الذوق السليم، والعبارات الرديئة والإيحاءات السخيفة البذيئة التي تمجها الأسماع والعقول ، لمخالفتها لما جاءت به الشرائع السماوية والقوانين الوضعية والذوق السليم ، ومثل ذلك حدث في شمال المغرب حيث تعرض وأحد ممن كلفوا أنفسهم النهي عن المنكر ليسدة تسير في الشارع العام بلباس عادي ، لكنها غير محجبة .. لقد أعادت هذه الأحداث -التي لا تتسع المقالة لسردها لكثرتها - إلى الأذهان همجية طالبان وجماعات النهي عن المنكر والأمر بالمعروف ، وذكرتنا ، مع الأسف الشديد ، بما حدث في مثل هذا الشهر الكريم من سنة 1997 وبالضبط في السابع عشر منه، حيث قام إرهابي من الجماعة الإسلامية الجزائرية ، بإنزال "الزهرة أمال زنون زواني" ذات 22 ربيعا طالبة في كلّية الحقوق بالعاصمة الجزائر من الحافلة التي كانت تقلها للعودة إلى بيتها ، وقام بذبحها قبيل آذان المغرب ، دون رحمة أو شفقة وأمام باقي الركاب ، بعد أن وقعت الحافلة في قبضة حاجز للجماعة الإسلامية المسلّحة ، وقد كان ذنب الفتاة الوحيد ، هو أنها لم ترتدي الحجاب الذي فرضته هذه الجماعة على النساء باسم الله ... إن ما آلت إليه الأمور في بلادنا مؤخرا ، خلال الأيام والشهور القليلة الأخيرة ، من استفحال للأحداث والسلوكات غير السوية المؤسفة - سباً وشتماً وضربً وتحرشا - التي تبدو بسيطة في ظاهرها ، لكن خطورتها مكمن في تكرارها اليومي ، في كل مكان ، في الشوارع ، وداخل المواصلات العامة ، وفي المدارس والجامعات ، وحتى داخل الأسرة ، وفي المساجد ، والذي يخشى ، أن يطوره ، ويمأسسها ، فتصير أمرا طبيعيا وعاديا ، واعترافا ضمنيا بها لحق المتطرفين المغالين من الرجال ، الذين أصبحوا يقفون أمام الملأ دون وجل أو حياء ، وخارج دائرة القانون ، ضد حرية المرأة ، ويعارضونها ، في لباسها وسلوكها الشخصي حتى الذي لا يخالف منه لا دين ولا قانون ولا الأعراف ، الأمر الذي أفقد الناس عامة والمرأة على وجه الخصوص ، الثقة في إمكانية حماية الحقوق بالقانون ، وأفقدهم الأمل في عودة الحياة داخل الدولة ، ورسخ لديهم الإيمان بأنهم باتوا يعيشون في غابة البقاء فيها للأقوى .. علينا أن نغلّب -قبل فوات الأوان -مصلحة الوطن على ما عداها من المصالح الخاصة المغلفة بالدين والتدين المزيف ، الذي هو في حقيقته سم ناقع وداء قاتل ، لأنه لا مجال للتسويف أو التأجيل للنأي بالوطن عن الفتن والأحقاد التي ليست محض صدفة ، بل هي نتاج تخطيط مسبق ومؤامرة خبيثة لقوى عدوة تتربص بأمتنا الدوائر وتبث سموم الفتن والقلاقل ، لثني مغربنا الحبيب عن تبوأ المكانة الأسمى المؤهل لها بين البلدان المتحضرة كما كان على مر التاريخ ، وإن إيماننا القوي بالله وثقتنا الراسخة في حب المغاربة لوطنهم ، لهو تأكيد على قدرتنا على تخطي المصاعب مهما تجاوزت الحدود ، وكان قدراتها المزعومة كبيرة ، إذا ما نحن اتفقنا على أن أملنا الوحيد في النجاة هو اتفاقنا على العودة لنحيا كبشر في دولة يحكمها قانون يكفل للجميع الحياة الكريمة الآمنة ، ويحميها من الموقعين باسم الله على الدفاع عنه ، والدود على حرماته ، وإصلاح عيوب عباده باسمه بالقتل والتقتيل ..