لا أحد يشك أو يجادل في أن التحولات المجتمعية تتواتر موغلة في فضاءات الجدة والتحديث مؤثرة في الإنسان وفي محيطه الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والبيئي ، وأن الشواهد التاريخية تؤكد على أن الكل في تجدد مستمر ، وأن الجديد – كيفما كان – لا يلغي القديم إلغاء تاما ، إلا إذا تقوقع القديم على ذاته وتقاعس عن التعايش مع المتغيرات ورفضها جملة وتفصيلا ، عندها ينهار ويتفسخ ويندثر نهائيا ، لأن سنة التجديد والتحديث ، لا تقبل بإمكانية البقاء في منأى عن دورة الزمان ، وحتمية التغيير بكل جنونه وصلفه ، الذي يفرض على الإنسان كما الأشياء ، أن تتغير مرارا وتكرارا ، حتى تتنكر لها صورها الأولى ، التي كانت عليها قبل التغيير. ولم تسلم الكثير من المدن المغربية حتى التاريخية والمصنفة ضمن أمهات حواضر العالم ، عن حتمية ذاك التغير الطبيعي المتلاطمة امواجه ، -الذي كان من المفروض على أن يُبنى ، على أسس حكيمة متينة ، وتخطيطات إبداعية رزينة ، ورؤى مدنية سليمة وإنسانية تسعى جادة دؤوبة للانتقال بتطلعات تلك المدن من التصور المأمول إلى الواقع الملموس – التي لم تقف في مدننا ، مع الأسف ، عند حد تجديد وتطوير التراث العمراني والحضاري والفكري ، وتثمين المعالم التاريخية ، والحفاظ على التقاليد الاجتماعية العريقة ذات الخصوصية الحضارية المتميزة ، وربط ماضيها بحاضرها ، واستشراف مستقبلها برؤى متطلعة إلى مواجهة ما تعرفه المدن من اختلالات وتحديات . لكن التغيير نحا ، مع الأسف الشديد ، منحاً معاكسا وخطيراً ، متعديا سياسة الترقيع والتجميل ، التي دأب عليها أباطرة العقار ، إلى اتلاف المعالم التاريخية للمدن ، وهدم أرصدتها التراثية العمرانية والعلمية والحضارية .. كما حدث مع حي "المحيط" ، بمدينة الرباط الذي أفقد التغيير ملامحه الأصلية ، وضاع معالمه الحضارية التاريخية ، كما جاء في حكاية "السي عبد الله" - ، التي اوردها محمد الراوي في مقالته المنشورة في عموده "أضواء وظلال " على جريدة المساء العدد 2277 - 21/01/2014 - والذي صعقته مفاجأة ما آلت إليه أحوال مراتع ذكرياته بذاك الحي الذي قضى فيه فترة من حياته قبل أن يتقل إلى بلاد المهجر ، التي عاش بيها مرارة الاغتراب لأكثر من ثلاثة عقود ، والتي عاين مدى محافظة مسؤولي بلاد الغرب المتقدمة على الفضاءات الحضرية بالمدن والأحياء التي عاش فيها أجدادهم ، وكيف يعبرونها أمانة يسلمونها إلى الأجيال الصاعدةِ من الأبناء والأحفاد . إن ما عاشه عبد الله مع ما طرأ من تغيير على معالم حي المحيط بمدينة الرباط ، -والذي أصابه بصدمة مهولة جعلته يعجل موعد رحيله عن وطن كابد نار الحنين إليه طويلا ، ليعود وبسرعة إلى بلاد المهجر- لا يخص الرباط وحده ، وإنما شمل جل المدن المغربية وبينها مدينة فاس رغم تصنفيها ضمن التراث العالمي الإنساني ، والتي يعتز ساكنتها وباقي المغاربة بأصالتها ويتوقون للحفاظ على تراثها الحضاري والمعماري والثقافي ، الشيء الذي دفع بعدد من جمعياتها الناشطة في مجال التنوير والتطوير والتجديد والحداثة ، والتي تضم من بين مكوناته المنتدى الإقليمي للمبادرات البيئية ، إلى تأسيس مبادرة تروم الاحتفاء بمدينة فاس على شكل "يوم سنوي " وتشكل موعدا وفرصة تمكن مختلف الفاعلين والمتدخلين المحليين من مؤرخين وباحثين جامعيين وأكاديميين ، من استعادة بعض من صفحات تاريخ هذه المدينة وتراثها الثقافي العالمي ، وهويتها الحضارية ، ويمكنها من العود لاحتلال موقعها كقطب حضاري متميز وعاصمة علمية وروحية للمملكة ، وذلك بتقييم ما تم إنجازه من برامج التنمية المحلية والعمل على وضع تصورات لما ينبغي القيام به للنهوض بمختلف القطاعات وبأفضل الشروط وحسب المواصفات التي يرتضيها المواطن المغربي الذي أصبح على درجة عالية من الوعي بدوره كقطب الرحى في كل حركة اجتماعية واقتصادية وسياسية ، والمدار الأساسي لكل تغيير .. وقد اعتبر السيد عبد الحي الرايس رئيس المنتدى الجهوي للمبادرات البيئية بفاس ، اليوم السنوي لفاس ، الذي انطلقت مبادرته سنة 2011 "، محطة سنوية للتساؤل والمساءلة عما صنعناه بفاس ، و عما أبقينا عليه من تراثها الزاهر والزاهي الذي سَنُورِّثُهُ للأجيال الصاعدةِ والقادمة. وقد عرفت دورات الاحتفال بيوم فاس شعارات أملتها ظروف انعقاده نوردها على التوالي : حيث كان شعارَ الدورة الأولى : "فاس عبق التاريخ ورهان الاستدامة" وشعارَ الدورة الثانية : " فاس الألفية الثالثة أي تصور؟ ، وإذا كان منظمي الاحتفال باليوم السنوي لفاس قد اختاروا كشعار للدورة الثالثة : " فاس ورهان تأهيل النقل والتنقل" والمتمحور حول الآليات ووسائل وشروط تحسين النقل الحضري بالمدينة ، فإنهم اختاروا لدورة هذه السنة شعار : "هل لفاس أن تؤول مجددا إلى قطب حضاري متميز" والذي قال السيد عبد الحي الرايس، عن دواعي ودلالات اختيار هذا الشعار في تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء : "إننا نشعر بتخوف إزاء الوضعية الحالية لمدينة فاس بسبب بعض الاختلالات التي تعرفها التوازنات البيئية والاقتصادية والاجتماعية". فاللهم غش مدينة فاس، وارزقها العصمة من ويلات هذا التغير، وقها من آفات هذا التبدل، آمين يا رب العالمين .