عرف المغرب منذ بداية استقلاله نوعا من العمل السياسي الذي استند الى أسس تعددية وانفتاحية ، لكن سرعان ما تحول هذا التعدد الى تكاثر غير طبيعي أراد منه القصر تسييج العمل السياسي الفاعل والمنتج بمساحات محروقة وبنفايات كريهة الرائحة والفكرة . وفي النهاية تم قتل كل بذرة سياسية بناءة في المغرب وتلطخت صورة السياسة فيه الى درجة التنابز بالألقاب ، والتناحر حول المنافع الشخصية والمغانم العينية ، اما البعد الرمزي الذي يمثل اسمنت العمل السياسي فقد تم اغتياله شر اغتيال . وهو الخطأ الذي وقع فيه المخزن الجديد مع الملك محمد السادس الذي عمل على تمييع وتشويه كل الأحزاب السياسية سواء الرسمية والممثلة في البرلمان والمشاركة في الانتخابات ؛او تلك التي انتبذت ظلال أشجار العقم ، فلا هي تخلي الساحة للبتلات الناضجة والمخصبة ولا هي تستغل بالسياسة فكرا وتنظيما ووعيا ورهانا . وما لايستصيغه عقل صحي وسليم هو أن يدفع بعض الاخوة او الرفاق ثمنا غاليا من حياتهم من أجل سراب العمل السياسي بالمغرب اعتقالا او تدميرا للمستقبل أو تهديدا بالتصفية أو تنغيصا للحياة اليومية . هكذا أصبح الوضع الحالي الذي تمت تهيئته منذ بداية الألفية الجديدة التي صادفت بداية تربع محمد السادس على عرش مملكته ، وضعا مأزوما سياسيا لا يجد الباحث له في الدراسات المقارنة شبها او نموذجا ، فلا هو ديمقراطي ولا هو عسكري ولا هو تعددي ولا هو كلياني ، انه منطق الارباك السياسي الذي يتأسس على نظرية اغراق السوق بالعملة الزائفة الى أن تصبح هي العملة الرائجة ، ويتم تداولها بين الجميع ليتم اتهام الجميع باستعمال العملة المزيفة . هذا الوضع يعجز فيه المرء عن الانخراط في حزب فاعل ، وهو واقع منفر ، لأنه لا وجود لمثل هذا الحزب في الواقع السياسي المغربي . فكل الآحزاب الآن تم جرها الى مساحات ضيقة وانخرطت في تلقي الضربات القادمة من كل الجهات ، وهي بالكاد ترد اللكمات أحيانا . انه صراع من أجل اللاشيئ . استطاع اذن النظام الجديد بالمغرب أن ينزل بالعمل السياسي الى درجاته الدنيا ، والغريب في الأمر أن جميع المشتغلين بالعمل السياسي نضالا وتفكيرا انغمسوا في الدور وافتتنوا بلغة السوقة وبالعائدات المادية السريعة وباشهار صورة السياسي ، وبنوع من الحمأة النرجسية الرخيصة المنتصرة للذات الفردانية ، سواء ذات السياسي او نموذجه المتعلق به من أجل عائد ريعي مهما كان تافها . الى درجة أن وزراء المملكة السعيدة لم ينتجوا منذ مدة طويلة ولو نظاما قطاعيا ، ولم يبدعوا فيه ، كأنهم وزراء تصريف الأعمال او وزراء تدبير الشأن اليومي ، فاذا مر يوم بسلام فذلك منتهى الأرب وقمة الانتاج . مما يعني ان الهاجس الأمني هو الذي يسيطر على عقلية الحاكم المغربي ، وليس الهاجس التنموي أو التطوي او الحضاري . وعلى ذكر الحضارة ، من من المغاربة يتكلم اليوم لغة الحضارة ؟؟؟؟. كما ان المفكر السياسي لم يعد مهتما بوضع الاستراتيجيات واعطاء الحلول ؛ بقدر ما صب كل طاقاته على تتبع اليومي ونتائج اشتغالات الملعب السياسي . جدير ذكره أن السياسة فن وليست هراوة ، وليست تجارة ، والفن يحتاج الى فنانين وليس الى مهرجين أو كومبارس . وهذا ما يوضح تراجع النخبة المفكرة ومحاصرتها ، وهو ايضا يوضح صعود نجم الشعبوية وقيادات فارغة الى تبوؤ منصة المشهد السياسي ، وهو ما يفسر طبيعة الحراك السياسي بالمغرب ؛ حيث هيمنة الحقد والغل والاقصاء بين الحركيين السياسيين انفسهم . فالاشكال اذن اشكال بنيوي عميق ، يهم البنية الفوقية كما البنية التحتية ، وهناك تنسيق شبه تبادل للأدوار بين البنيتين . فالبنية الفوقية تقوم على تبخيس وتهميش كل عمل جاد وفاعل ، وتكون الاجابة من البنية التحتية تنابذ وصراع من أجل أخذ الكلمة او الميكروفون . نحن اذن أمام صورة واضحة لواقع السياسة بالمغرب . وتقع مسؤولية هذا الواقع على الجميع طبعا .