لم يعد قطاع تسويق اللحوم البيضاء بمنأى عن الزوابع المستمرة التي يتعرض لها سنة بعد أخرى ، حيث لم يعد الأمر مقتصرا على موسم دون آخر ، إذ يمر المنتوج بتقلبات حادة تكون لها انعكاسات سيئة على حجم المنتوج من جهة، وعلى تنميته من حيث مستوى المردودية من جهة أخرى، وبالدرجة الأولى على الأسعار في الأسواق التي تظل في تقلب مستمر ولا تستقر على حال ، وذلك ليس بفعل تدخل آليات العرض والطلب، ولكن بحكم تدخل عوامل الاحتكار واستغلال المناسبات وتكريس الأزمة المفتعلة للإبقاء على الأسعار في مستوى جد مرتفع .. وبالرجوع إلى الأسعار المتداولة خلال السنة الفارطة ، يتجلى بوضوح حجم الاختلالات التي يعاني منها هذا القطاع الحيوي والحساس بسبب السياسة المتبعة من طرف الفاعلين في القطاع ، وكذلك سياسة الوزارة الوصية على قطاع الفلاحة وتربية الدواجن ككل ، والتي تتسم بالارتجال وترك الحبل على الغارب ، والعشوائية في اتخاذ القرار، وعدم تقديم الدعم للعاملين بالقطاع وبالدرجة الأولى فئة المربين والمنتجين ، ثم غياب التدابير الوقائية لحماية المنتوج من التلف والضياع . فمن خلال المقارنة بين الأسعارالمتداولة في أسواق البيع بالجملة، وداخل ضيعات الإنتاج ، ونقط البيع بالتقسيط، تنكشف بوضوح مظاهر الفوضى التي تطبع ممارسات العاملين بالقطاع .. ففي ظل هذا الوضع المتقلب تظل طنجة هي الاستثناء في كل شيئ، لأن ثمن البيع يظل مرتفعا جدا وبفارق كبير مع معدل الأسعارالمعتمدة على الصعيد الوطني بنسب قد تقارب في أغلب الأحوال 200% وخصوصا بالنسبة للدجاج المذبوح ، والمقطع، ويظل السبب الرئيسي هو الجشع وغياب المراقبة والضبط ، واستغلال آلية تحرير الأسعار التي يكفلها قانون المنافسة وحرية الأسعار الصادر سنة 2000 ، وكذلك الموقف السلبي للجهات المسؤولة أمام هذه الظاهرة الخطيرة . وللكشف عن أوجه الاختلالات والتناقضات الملازمة لهذه القطاع ، يمكن الوقوف على بعض المؤشرات الدالة على الأزمة المفتعلة، والتي يؤدي ثمنها بالدرجة الأولى الفلاح المنتج والمستهلك لا غير . ولقد سجل أن معدل البيع الوطني بالجملة في شهر نونبر 2012 كان هو 12.52 درهما للكيلوغرام، في حين أن معدل تكلفة الإنتاج عند المربين قد وصل إلى 14.90 درهما ، وذلك بفارق زيادة درهمين من الخسارة ، بل نزل السعر الوطني إلى حدود 8 و10 دراهم خلال شهري نونبر ودجنبر من نفس السنة ، ومع ذلك استمر المربون يساهمون في الإنتاج وهم يعلقون الأمل على انفراج الأزمة التي أصبحت أزمة بنيوية ملازمة للقطاع الذي يعتمد بالأساس على المغامرة والمراهنة .. ومن جهة أخرى فإن ثمن البيع بالجملة ظل يتراوح بين 11 و14 درهما ابتداء من شهر يناير 2012 إلى منتصف شهر غشت من نفس السنة ، ثم قفز إلى 18 و21 درهما خلال الفترة اللاحقة . وقد تم تعليل هذه الزيادات الصاروخية باشتداد موجة الحر ونفوق آلاف رؤوس الدجاج، وبالزيادة في ثمن الأعلاف ب70 ستنيما في الكيلوغرام بتدخل من جمعية منتجي الأعلاف استنادا إلى الزيادة التي سجلت في السوق الدولية بصفة مؤقتة ، علما أنه تم التراجع عنها في المدة الأخيرة بكيفية ملموسة في السوق الخارجية ليعود السعر الدولي إلى وضعه السابق ..وللإشارة فإن ثمن تكلفة الإنتاج ظل منخفضا في الخارج بفضل الدعم الذي يتلقاه المنتجون من لدن الحكومات. والدليل هو أن ثمن الكيلغرام الواحد من الدجاج الجاهز في فرنسا كان هو 19 درهما ، وفي أمريكا والميكسيك ظل يتراوح بين 8.5 و11 درهما. وبالرغم من تسجيل انخفاض في أسعار الأعلاف في السوق الدولية مؤخرا ، فقد ظل السعر في المغرب ثابتا ولم يتراجع ، وكان وزير الفلاحة قد وعد في تصريحة أمام البرلمان يوم 29/4/2013 أن الوزارة ستعمل على خفض أثمنة الأعلاف بنسبة 10% مقارنة بالسنة الماضية ... والجدير بالذكر أن غلاء الدجاج في المغرب يرتبط بعوامل أخرى مسكوت عنها ، منها عدم جودة الأعلاف التي يتم تسويقها، والتي تفتقر إلى المواد المغذية الكافية، مما يفرض استعمال كمية مضاعفة من أجل تغذية الدجاج ، ومع ذلك يظل الوزن منخفضا ، كما أن مدة التربية تطول أكثر، هذا بالإضافة إلى ضعف جودة الكتكوت الذي يكون أحيانا حاملا لبكتيريا السالمونيلا ، والميكوبلازم ، حيث ترتفع نسبة الوفيات وتكلفة الأدوية والتربية . وقد كان لارتفاع ثمن الكتكوت الذي بيع ب7 دراهم في شهر فبراير 2013 أثر على ارتفاع أسعار بيع الدجاج . ومن أجل تجاوز هذه المعضلة تمت الدعوة آنذاك إلى استيراد الكتاكيت من الخارج بجودة عالية وبأثمان مخفضة ، لكن العملية لم تتم بسبب التعقيدات المسطرية ..علما أن اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوربي تنص على إمكانية استيراد حصة من الكتاكيت تصل إلى 6 ملايين كتكوت معفاة من الرسوم الجمركية .. وهو ما يطرح تساؤلا عن السر في عدم الاستفادة من هذه الإمكانية. فالقطاع يمر بنفس الأوضاع المزرية التي تفاقمت منذ 1996 ، مما يؤدي إلى ضياع المنتوج صيفا وشتاء بسبب الأمراض، وضعف جودة الكتاكيت ، ففي سنة 2011 تناولت الصحف خبر زيارة باحثين فرنسيين إلى شمال أفريقيا وقيامهم بإجراء تحاليل على الدجاج أدت إلى اكتشاف وجود سلالة جديدة لداء السالمونيلا ، لكن وزارة الفلاحة نفت ذلك . ويذكر المختصون أن هذا الفيروس يكتسب مقاومة للمضادات الحيوية فتنتج عنه وفيات وخصوصا في فصل الشتاء .. وأمام هذه الوضعية يطرح مشكل متلاشيات الدجاج وتأثيرها على البيئة وصحة الإنسان ، فهذه المتلاشيات يتم التخلص منها بكيفية عشوائية ، كما تخضع للبيع في السوق السوداء من أجل توظيفها في صنع النقانق وبعض الأطعمة الجاهزة التي تباع بعيدا عن أعين المراقبة الصحية، والتي يقتنيها المواطنون دون أن يعرفوا طبيعة مصدرها .. وبالرغم من تراجع ثمن البيع بالجملة إلى حد 9 دراهم بعد انصرام موسم الصيف، فإنه سرعان ما عرف زيادة تصاعدية بسبب موجة البرد ، وعزوف المربين عن تهيئة المنتوج في ظل الإكراهات القائمة ، وضعف هامش الربح . ويشكو المربون من وجود أزمة خانقة أدت إلى تراجع عدد المنتجين بنسبة 50% جراء تعرضهم للإفلاس. "ففي أواخر شهر نونبر 2012 نزل سعر الدجاج في سوق الجملة إلى حدود 7 دراهم بسبب وفرة الإنتاج فتعرض القطاع لشبه دمار كامل ، فتم اللجوء إلى تقليص معدل الإنتاج وتقليص عدد الأمهات مما جعل معد إنتاج الكتكوت ينزل من 9 ملايين إلى 5 ملايين كتكوت . .. " لكن العارفين بخبايا القطاع يرون أن الأزمة في بعض تمظهراتها تظل مفتعلة وغير طبيعية ، لأن المعدل الأسبوعي للإنتاج الوطني يقدر ب10 ملايين وحدة في الوقت الذي لا يتجاوز معدل الاستهلاك الأسبوعي 5.6 مليون وحدة ، والذي ينزل أحيانا إلى أقل من 5 ملايين وحدة . وأخيرا ظلت الفيدرالية البيمهنية لقطاع الدواجن تتحدث عن الخسائر المهولة التي تكبدها المربون والتي تقدر بالملايير، وهي تطالب الحكومة بحماية المستهلك ، علما أنها في سنة 2008 وقعت اتفاقية مع الحكومة على خلفية إكراهات القانون الصحي 49/99 مقابل أن تتحمل الفيدرالية أداء فائدة الدين المقدم لها بنسبة 3% عن طريق القرض الفلاحي من أجل تهييئ الضيعات القديمة وتجهيزها وتسويق المنتوج ، بالإضافة إلى إحداث أسواق جديدة ، وإصلاح الأسواق القديمة، والزيادة في عدد المجازر الصناعية وخفض التكلفة .. لكن الحصيلة ظلت تكشف عن فشل السياسة التي راهنت عليها الفيدرالية في تطوير هياكل القطاع، حيث أن تدخلها لم يسفر عن أي نتيجة ، وظلت المشاكل قائمة كما كانت قبل تأسيس هذه المؤسسة .إذ تم تكريس ظاهرة غلاء الدجاج في كل الأوقات وعلى طول السنة ، رغم وجود فائض الإنتاج الذي يؤدي إلى تراجع الأسعار خلال مرحلة البيع الأولي لدى المنتجين، ومع ذلك يبقى الفرق شاسعا بين ثمن البيع بالجملة والبيع بالتقسيط الذي يتجاوز في طنجة نسبة 200% ..فهذه المؤسسة بعد حصولها على الدعم لم تقدم للمربين أي مساعدة ، بل ضربت عليهم الطوق. ففي شمال المغرب لم يستفد أحد من الدعم وعلى سبيل المثال ، القرض المخصص للدواجن المقدم من طرف القرض الفلاحي .. ولهذا يطلب من الوزارة الوصية أن تتدخل لمحاسبة المسؤولين عن القطاع وفتح تحقيق حول الاختلالات التي يعاني منها بسبب المضاربات والاحتكار والتلاعب في الأسعار و إنتاج المواد الأساسية، حيث يشكو المربون من ضعف جودة المواد الأولية المستعملة في انتاج الأعلاف ، وغياب المختبرات المؤهلة لتحديد طبيعة المنتوج ومستوى المعايير الصحية اللازمة .. حيث يجدون صعوبة في تشخيص الوضعية سواء بالنسبة للأعلاف أو الكتاكيت أو الدجاج ككل، لأنهم ينتظرون مدة أزيد من 10 أيام للحصول على أجوبة غير مطمئنة ومفارقة لما يلمسونه على أرض الوافع من مآسي . ولا زال المربون يطالبون بإجراء الحوار معهم بشكل مباشر دون وساطة من الفيدرالية التي يرون أنها لا تمثل منهم إلا نسبة 5% . وحسب الدراسة التي أنجزت سنة 1997 فإن هذه الفئة العريضة من المنتجين تشكل أزيد من 90 % من مجموع المهنيين ، في حين أن كبار المنتجين لا يمثلون إلا نسبة3 % من العدد الإجمالي . وما فتئ العاملون بالقطاع يطالبون الجهات المختصة بتوفير مختبرات مؤهلة للتحليلات الخاصة بالأعلاف والكتاكيت، بالنظر لما يعانونه في حياتهم اليومية مع المختبرات الخصوصية المتوفرة، فبعد طول انتظار وقلق دائم ، ينتهي الأمر بنفوق الدجاج ابتداء من اليوم 30 فتكون الوفيات كبيرة والحصيلة كارثية ، ويظل الرابح الأكبر هم مسوقو الأعلاف والوسطاء والمضاربون. وذلك لأن الوزارة لم تعمل على تطبيق القانون على منتجي الأعلاف والشركات المنتجة للكتاكيت التي لا زالت ترفض منح شهادة سلامة المنتوج المفروضة في القانون 49/99 وإذا ألح الزبون على المطالبة بهذه الوثيقة، تمتنع الشركة عن تزويده بالبضاعة ، وتقوم في المقابل بالتعامل مع السماسرة المجهولي الهوية، والمنتجين العشوائيين، علما أن القانون يمنع بيع الكتكوت إلا لمن يتوفر على رخصة ، وهو ما شجع على تنامي ظاهرة الضيعات العشوائية التي تشغل بعيدا عن المراقبة .. ومن أسباب غلاء الدجاج في طنجة عدم توفر سوق الجملة الخاص بالدجاج ، وتغييب الوزارة للقطاع في المخطط الأخضر بجهة طنجةتطوان، على خلاف الجهات الأخرى التي استفادت من عدة امتيازات مخصصة لهذا الجانب، ثم تدخل عامل الوسطاء والمضاربين ، والمنتجين العشوائيين الذي يحظون بالحماية من طرف بعض المجازر العصرية التي أصبحت بدورها تزاول عملية البيع، وإعادة البيع بدلا من الاقتصار على عملية الذبح . وللعلم فإن هذه المجازر يفتقر أغلبها إلى التأطير الصحي الملائم وفق المعايير التي ينص عليها القانون المنظم لهذا المرفق، فهي لا تعدو أن تكون مجرد رياشات تقليدية كبيرة ، ولقد سبق في سنة 2005 تقديم أدلة حية عن انعدام المراقبة في هذه المجازر ، و التي تكاد تكون شبه منعدمة ، حيث يتم ختم الدجاج بكيفية غير قانونية ، وفي غياب المصالح البيطرية ، كما أن عملية الذبح تنطلق مبكرا بعيدا عن أعين المراقبة الصحية ، في الوقت الذي تزاول فيه هذه المجازر عملية البيع من أجل مراكمة الأرباح .. وللإشارة فأن الإنتاج الذي يمر عبر هذه المجازر لا يتعدى حدود 3000 طن في الشهر ، في الوقت الذي يقدر المنتوج الوطني الخاضع للذبح ب 36600 طن في الشهر .. حيث لا يتوفر إلا 23 مجزرة على الصعيد الوطني وهي تغطي نسبة 10% من الذبائح ، وما بقي وهو 90 في المئة تتكفل به المجازر التقليدية (الرياشات ) كما يتوفر على47 محضنة ; 40 معملا للأعلاف . ويذكر العاملون بالقطاع أن نصف المربين على الصعيد الوطني يعانون من الإفلاس بسبب الديون المتراكمة ، حيث توفي أحد المربين يوم افتتاح معرض الدواجن بالبيضاء في السنة الماضية بسبب السكتة القلبية ، كما تم اعتقال مرب آخر بسبب تعامله بالشيكات بدون رصيد . وهم يشيرون إلى وجود خطة لإغراق القطاع في الأزمة من أجل إخضاع هذه الفئة للسيطرة والهيمة على يد اللوبيات المتحكمة في زمام الأمور داخل القطاع .