من أكثر الكلمات تداولاً في أيامنا هذه، مصطلح "الدكتاتورية" (ولاسيما بعد مغادرة الرئيس التونسي المفاجئة للبلاد وتنحي الرئيس حسني مبارك عن السلطة) حيث أغرقتنا وسائل الإعلام على تعدد أنواعها وإختلاف مشاربها، في إنتقاد دكتاتورية (الزعيم والرئيس) وأصبح كل غاضب من الناس مثقف كان او غير متقف، متسيس أو غير مهتم بها- يصبّ جام غظبه على رؤساء الدول وحكامها، بغض النظر عن اسمائهم وجنسهم وموقعهم، من تونس ومصر إلى اليمن وليبيا ثم في سوريا وغيرها من البلدان العربية الأخرى التي تعرف انتفاضة على حكامها. فما هي هذه الدكتاتورية التي صمت أحاديثها الآذان، وأعيت النقاشات حولها الأفكار، وأرهقت النضالات ضدها الأبدان، والتي ينزع كل منتقديها ولائميها إلى تبرئة أنفسهم منها على أنها كبيرة من الكبائر، وعيب من أقبح العيوب. وذنب عظيم من أكبر الذنوب، وسلوك خاطئ غير إنسانية يمارسه الإنسان على أخيه الإنسان، بوعي أو بدون وعي، حتى غدت لفظة الدكتاتور تستخدم كاصطلاح يهدف إلى الإساءة السياسية للخصوم السياسيين والاتهام لهم بمعاداة الديمقراطية، وتطلق على كل مَن يتبنى أو يعبر عن آراء منافية أو مخالفة لها ولقيميها ومؤسساتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وهي وبكل أختصار، شكل من أشكال الحكم، ونهج منه خاطيْ ظالم وقاسي ومجحف تكون فيه السلطة مطلقة في يد فرد واحد متسلط يحب البروز على حساب الآخرين، يطلق عليه دكتاتور. وليس من الغريب أن تنتقل عدواها من مكان إلى آخر، كما فعل موسوليني حين قلد لينين، واتبع هتلر خطوات موسوليني، وحاول أتاتورك تقليد كل من لينين وموسوليني، أما بيرون فقلد الديكتاتوريات الأوربية والتي هي أنواع كثيرة وبين أنظمتها فروق كبيرة، فالديكتاتورية الفاشية مثلا، لا تشبه الأنظمة الديكتاتورية الشيوعية، وبينها وبين الأنظمة الديكتاتورية وتلك التي انتشرت في أمريكا اللاتينية وباق الأنظمة الأخرى، إختلاف كبير عن ديكتاتورية كمال أتاتورك، ما جعل نوعيتها تختلف وأنواعها تتعدد فهي إما دكتاتورية تتبنى فكرة معينة وتدعو إليها وتقوم عليها، وهذه هي الدكتاتورية المذهبية كالماركسية والنازية والفاشية التي تقوم حول شخصية زعيم كهتلر وفرانكو وبيرون، وإما أن يفرزها الواقع فيظهر الديكتاتور الذي يفرض إرادته على الشعب ويلغى الحريات ويتمسك في الظاهر بالفكرة الديمقراطية وتلك هي الديكتاتورية غير المذهبية. وقد جاء أصل الكلمة من الفعل (dictate) أي يملي والمصدر dictation أي إملاء، وقد إستخدم مفهوم الدكتاتورية لأول مرة عند الرومان حيث كان الدكتاتور عندهم منصبا سياسيا في حقبة الجمهورية الرومانية القديمة يختص بسلطة مطلقة زمن الطوارئ، يحصل عليها بتشريع مسبق من مجلس الشيوخ الذي يمنحه هذا المنصب. أما الاستخدام الثاني وهو المعاصر للكلمة، فيشير إلى شكل من الحكم المطلق لفرد واحد دون التقيد بالدستور أو القوانين أو أي عامل سياسي أو اجتماعي داخل الدولة التي يحكمها. وهي بذلك وبما يشوبها من استبداد واستئثار بالسلطة لا يمكن أن تتفق بحال مع الدين الإسلامي الشرعية السماوية الواضحة الجلية القائم أساساً على مبدأ الشورى وعلى العدل، وإقرار الحقوق والحريات التي لا يجوز للفرد ولا للجماعة أن يخرج عليها والاستبداد بالأمر لوحده، ومن يفعل فهو ظالم لا يطيع إلا هواه وليس سوى عابد هوى قد ذمه القرآن، لأن الحاكم في النظام السياسي الإسلامي محكوم بشريعة الله تعالى فلا يجوز له أن يخرج عن أحكامها والذي شدد الكثير من الفقهاء على أن البعد عن مبدأ الشورى وقول الله تعالى: " وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ " ( آل عمران : 159). أمر مناف للدين كما فعل الإمام الشيرازي حين قال بأنه (ليس للحاكم حق الديكتاتورية إطلاقاً، وكل حاكم يستبد يعزل عن منصبه في نظر الإسلام تلقائياً، لأن من شروط الحاكم العدالة، والاستبداد، الذي معناه التصرّف خارج النطاق الإسلامي، أو خارج نطاق رضى الأمة بتصرف الحاكم في شؤونها الشخصية، ظلم مسقط له عن العدالة). فالدكتاتورية إذن، سلوك وأخلاق -كنقيظتها الديمقراطية تماما- تظهر مؤشراتها من مراحل عمر الفرد الأولى ويتأثرة بنوعية المناخ العائلي والطبقي والديني والأخلاقي الذي ينشأ فيه وعليه الإنسان، بدأً بالاسرة التي تمثل المصدر الأول للأخلاق التي تصوغ وتصنع شخصية الطفل السوي أو المختل الدكتاتور، في جل المجتماعات، وعلى رأسها العربية التي يتلقى فيها الطفل من خلال التربية الموجهة أو التربية العشوائية غير المنتظمة، كل أنواع العنف المزاجي أو شدة التعامل مع الآخرين ومع أحداث الواقع من خلال ما يشاهده وما يعايشه في محيطه الاجتماعي والأسري، كبيئة أولية يفتح عليها الطفل عينيه، مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)، وذلك لاعتماده كليا على أسرته في نموه وتعلمه واتخاذها ملاذه ومعلمه وموجهه، لما تصدره من مواقع إستراتيجية لصنع النشأ الصالح أو الطالح الدكتاتور، بما يمارسه الكثير من الآباء والأمهات اتجاه أبنائهم من سلوكات خاطئة غير تربوية وغير انسانية دكتاتوري يمثلها في كل بيت (سي سيد) ، الذي قد يكون الأب أو الأخ الأكبر واللذان غالبا ما يمتلكان مواصفات الدكتاتور الذي يعتبر نفسه وصياً على إناث البيت ويمارس عليهن رجولته التي يحرم من ممارستها في الخارج فهن المنفس الوحيد له ليفرغ ما في قلبه من ذل وتحقير يعاني منهما بسبب ديكتاتورية رب عمله مثلاً . ومن باب الإنصاف, يجب القول أن أسباب ظهور بواذر كل النزوعات الديكتاتورية لدى الإنسان، لا تعود للأسرة وحدها, بل للعديد من القطاعات المهتمة بالتنشئة التربيوية والاجتماعية والاقتصادية، كالمدرسة التي هي البيئة الثانية من حيث القدرة على التأثير في سلوكيات الطفل وتغذيتها بالأخلاقيات الحميدة والتصدي لظاهرة العنف المدرسي وتوجيه أولياء الأمور حين تبرز دلالات العنف أو الانحراف لدى أبنائهم ومدهم بالتجارب المختلفة للتعامل معهم ومراقبة سلوكياتهم بدأً من (المسيد) الكتاب القرآني الذي يتلقى به التلميد ظربة (الفلقة) ويتشبع بإذلال وعجرفة ودكتاتورية الفقيه، أكثر مما يتعلمه من قراءة وكتابة وحسن السلوك، والذي تستمر معه في أماكن العمل والدوائر الإدارية والمعامل والوزارات المختلفة. وكما تعود أيضا إلى وسائل الإعلام بجميع أنواعها المقروءة والمسموعة والمرئية وما لها من دور شمولي طويل المدى في التنشئة بما تبثه من سموم التطبيع النفسي لدى الأطفال مع العنف والدكتاتورية والانحلال الخلقي. ولعلي لا أروم من خلال هذا الطرح، توجيه اللوم لأحد، بقدرما أرغب في استشراف المستقبل، والاستفادة من الأخطاء وتجاوزها, تحصينا لفلذات أكبادنا, وخلق جيل ديمقراطي يحب وطنه حبا مفعما بالصدق، ويؤثره على نفسه ويضحي من أجل تحريره من كل أنواع الدكتاتوريات المفروضة عليه, والتي تزدهر معها وفي ظلها ثقافة الذعر والخوف والرعب والنفاق، بدأً من دكتاتورية البيت وطاغيته السي السيد، ودكتاتورية المدرسة أو الجامعة وطغاتها المعلم والمدير، وديكاتورية الحكومات وطغاتها الوزراء والمدراء والمندوبون. صحيح أنه بإمكان الكثير من الشعوب اسقاط دكتاتورياتها(كائتة من كانت) وتغيير نظمها المستبدة الفاسدة الظالمة، وفضح سارقيها ومنافقيها المارقين، ومحاكمة قتلتها، بالثورات السلمية أو العسكرية. لكنها لن تستطيع اسقاط حقيقة الدكتاتورية كسلوك جائر وظالم متجذر فيها، إلا بتنمية شعور الناس بالواجب والشرف والاخلاص للوطن منذ الطفولة حتى المراهقة والرشد وباقي مراحل الحياة المختلفة، ولن يتأتى لها ذلك إلا بالتربية التي تعد -بكل أنواعها- أهم مقومات تنمية المجتمعات وتغيير سلوكات المواطنين وطباعهم، ومراجعة أنفسهم وتطهيرها، ومحاسبتها. لأنه إذا ما أنتهج أي مجتمع متحضر سلوكا تربويا وحظاريا، بدأً من داخل العائلة مرورا بتوجيهات رجال الدين الورعين المعتدلين ثم المعلمين ومدراء المدارس ورؤساء الجامعات ومرافق الحياة المختلفة الأعمال والإختصاصات، حتما أن ذلك المجتمع، سيفرز شعبا متفهما متسامحا واعيا ينبثق منه (الرئيس) الطيب الأعراق، العادل الحكيم غير الجائر وغير الطاغي والجلاد لابناء جلدته، وستصبح حتماً بين مصاف العالم الأول المتحضر في كل شيء. خاصة إذا كانت جنيع مقومات ذلك متوفرة كما في العالم العربي، الذي لا ينقصه إلا النية الصادقة والضمير الحي، لأن الضمير حين يموت يصبح الخاص عاما، والعام خاصا، ويتحول الحلال إلى حرام، والحرام إلى حلال، ويُنظر للأوطان كمزارع عائليه، وللشعب كقطيع غنم. فلننظر مثلا إلى أوروبا، تقف السيارة عند الإشارة الألكترونية تنتظر أن تفتح، برغم أنه لا يوجد شرطي يسألها ويحاسبها أو يعطيها مخالفة، لكن هناك ضمير داخلي يعمل عمل الشرطي ويأمره بالإنتاظر، وإحترام القانون، الذي هو الخُلق الرقيب الوحيد في المجتمع وبين الناس، في العمل وفي البيت وبين الأبناء، فإذا تشبع مجتمع أو أمة ما بفلسفة الأخلاق الفاضلة التي قال عنها الشاعر: ( إنما الأمم الأخلاق مابقيت===فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا) فلا شك أن ذلك المجتمع وتلك الأمة ستصل إلى مرتبة دولة مثل اليابان في العلم، وماليزيا في العمل، والصين في التطور والتقدم، وأوروبا في السلوكيات والكثير من القيم والأخلاقيات المزدهرة في الغرب وعلى نطاق واسع، والتي ليس لها – مع الأسف- مكان بيننا. ورغم ذلك فإن الفرصة لازالت أمامنا سانحة لإصلاح ما أفسده الدهر، لغرس قيم المواطنة الصادقة وخلق جيل وطني, وتربى على حب المغرب شعبا ومقديات وممتلكات وقيما.. كما فعلت ذلك في السابق المدرسة العمومية, - رغم ما عرفته هذه المدرسة، من ظروف عصيبة انعدمت فيها البنى التحتية والفوقية, وغاب فيها المال الضروري والمتوفر للمدرسة الحديثة- وذلك من داخل ما عرفته من منظومة تربوية مضمخة المقررات والمناهج بعطر الوطن الشيئ الذي لا يتطلب إلا تبلور إرادة النهوض لدى جماهير الأمة ووعيها بقضية التخلف وأبعاده الخطيرة، وضرورة القضاء عليه، والوعي بالأساليب والأدوات اللآزمة والضرورية للنهوض الحضاري بمعناه الشامل الذي يحد من انتشار وباء الديكتاتورية وتفريخ الدكتاتورين أمثال (جوزيف ستالين،) زعيم الإتحاد السوفيتي، 1922-1953: وموسوليني وهتلر و(كيم يونغ إل) زعيم كوريا الشمالية عام 1994، و(فرديناند ماركوس)، رئيس الفلبين 1965 – 1986، و(نيقولا شاوشيسكو)، رئيس رومانيا، 1967 – 1989 و(سابارمورات نيازوف)، رئيس تركمانستان، 1990 – 2006: (وعيدي أمين)، رئيس أوغندا، 1971-1979: (محمد رضا بهلوي)، شاه إيران، 1941- 1979: (صدام حسين)، رئيس العراق، 1979-2003 (موبوتو سيسي سيكو)، رئيس زائير، 1965 – 1997: (سوهارتو،) رئيس إندونيسيا، 1967-1998 وغيرهم كثير كزين العابيدين رئيس تونس، وحسني مبارك رئيس مصر، ومعمر القدافي.. [email protected]