قسم: الفلسفة والعلوم الإنسانية متابعة تسويغ: تتعدّد كتابات الأستاذ حاييم الزعفراني (1922 – 2004) بتعدّد الموضوعات التي تناولها بالدرس، وهي موضوعات تصبّ في معظمها حول الطائفة اليهودية بالمغرب؛ فقد بدأ الكتابة منذ 1948، غير أن حركة التأليف لم تنشط عنده إلا في أوائل الستينيات، إذ ركز خلال هذه الفترة على دراسة طرائق التعليم اليهودي في المغرب، وفي مطلع السبعينيات تعمّق في دراسة الحياة الثقافية اليهودية، والتي حصرها في فترة امتدت ما بين القرن الخامس عشر والقرن العشرين الميلاديين؛ وفي الثمانينيات انشغل بالبحث في الشعر اليهودي المغربي، وبدراسة العلاقات اليهودية الإسلامية. وعلى الرغم من تعدد الكتابات لدى الرجل، والتي سعى من خلالها إلى إظهار التراث الثقافي اليهودي منذ العصر الذهبي للعبرية العربية التي عاشت على أرض الإسلام، فإن الذي يعنينا بالدرس في هذه الورقة هو كتابه الموسوم ب: "ألف سنة من حياة اليهود بالمغرب" Mille ans de vie juive au Maroc Histoire et culture, religion et magie, Paris, 1983 حياة اليهود بالمغرب: كتاب "ألف سنة من حياة اليهود بالمغرب" هو كتاب من الحجم المتوسط صدر في باريس لصاحبه حاييم الزعفراني عام 1983، وتُرجم إلى اللغة العربية بعناية الأستاذ أحمد شحلان والأستاذ عبد الغني أبو العزم، وصدر في طبعته الأولى، الدار البيضاء، عام 1987 يتناول الكتاب الذي ضم بين دفتيه مقدمة وستة فصول، يهودية المغرب الأقصى التي ظلّت حبيسة قوانين مستقاة من التوراة والهلاخا، فاحتفظت بروابط وثيقة مع الفكر اليهودي العام، على الرغم من أن هذه اليهودية هي أيضا وليدة تربة المغرب، حيث ولدت وترعرعت وعاشت حوالي ألفي سنة، فتربّت وتفاعلت مع المحيط في ظلّ التقارب اللغوي وتشابه التكوين العقلي، والتضامن الفعال، مع قدر لا يستهان به من المساواة، بل الانسجام الديني، وهي أمور تبلورت في مظاهر العيش اليومي، والمناسبات الفريدة في الحياة.[1] لذلك، أكب المؤلف على دراسة الفكر اليهودي المغربي في كتابه انطلاقا من خمسة مستويات كبرى، هي المستوى التاريخي والاجتماعي والاقتصادي والفكري والديني. 1- المستوى التاريخي: يعدّ اليهود أول مجموعة غير أمازيغية عاشت في المغرب وما تزال تعيش فيه، على الرغم من اختلاف الآراء حول وجود الأثر اليهودي في المغرب، ذلك أن الأخبار المتعلقة باليهود قديما نادرة، بينما توجد معلومات مهمة تعلقت باليهود الذين عاشوا في العهد الإغريقي الرّوماني، إذ توجد كتابات الأخبار والنقوش والأثريات، ومنها بقايا شاهد قبر يحمل الكتابة العبرية "مترونا بت ربي يهوده نح"؛ أي (السيدة بنت الربي يهودا لها السكينة). وناقش الكاتب، من جهة أخرى، نظرية الأصل البربري لليهود التي اعتبرها بعض المؤرخين مسلّمة ثابتة، بينما أنزلها البعض الآخر منزلة الشك والنفي، مثل "H.HIRSBERG" الذي بنى نفيه للنظرية على غياب اللغة البربرية في الآداب اليهودية. وعلى الرغم من أن يهود المغرب كانوا في تعليمهم التقليدي في الأوساط البربرية يعتمدون في تفسير النصوص المقدسة وترجمتها على اللغة البربرية، فإن الكاتب ترك أمر البحث في نظرية الأصل للأساطير والأخبار. ومع مجيء الفتح الإسلامي إلى بلاد المغرب، والذي أدرك قبائل مسيحية ويهودية ووثنية، فقد عاملها الفاتحون، ومنهم المولى إدريس الأول، معاملة أهل الكتاب طبقا لقوانين الشريعة الإسلامية، كما ترك المولى إدريس الثاني اليهود داخل أسوار فاس القديم، حتى أسّس المرينيون ملاح فاس الجديد.[2] ولما بنى يوسف بن تاشفين مدينة مراكش سنة 1062م، منع اليهود من دخول المدينة، فظلوا يقيمون في أغمات، [3] يأتون إلى مراكش نهارا لقضاء أغراضهم، ثم يعودون مساء إلى مكان إقامتهم (أغمات). وبخلاف ذلك، سمح أحمد الذهبي السعدي(1578-1603م) ليهود أغمات بالإقامة في مراكش. لقد تعامل الدارس مع الأحداث التاريخية المتعلقة بيهود المغرب، تعاملا ماديا، إذ اعتمد على وثائق تشهد على قدم الأماكن اليهودية في شمال وجنوب المغرب الأقصى، ويتجلى ذلك في وثائق "الكنيزة" (مخزن الوثائق)[4]، هذه الوثائق التي لم يصل منها إلا الجزء اليسير بفضل أعمال B.D.Goitein، والتي تشهد أن اليهود المغرب كانت لهم علاقات مهمة مع الأكاديميات البابلية (مدرسة سورا – بمبيدة.) والأكاديميات الفلسطينية، خلال فترة "الكؤونيم" التي امتدت من القرن السادس إلى القرن الثاني عشر الميلاديين. أما اليهودية الأندلسية، فقد شهدت رخاء واطمئنانا، إذ لعبت هذه الطائفة دور الزيادة في الحياة الاقتصادية والفكرية. لقد أدى سقوط الأندلس إلى توافد يهودها على بلدان المغرب، فوصل مهجّرو (1492-1497) الإسبان والبرتغال في موجات متتابعة، حاملين معهم لغة الأجداد القشتالية وعلومهم وأعرافهم وعاداتهم. وعلى الرغم من بعض الخلافات التي حصلت بين اليهود المحلّيين واليهود المهجّرين في بعض الطقوس والأعراف، فإن اليهود الجدد أخذوا قيادة الجماعات اليهودية، فأصبح منهم علماء في الشريعة، ورجال أعمال، ومستشارو الملك، وقناصل، ومن هؤلاء نذكر: ابن عطار، ابن دنان، ابن سور، برديكو، طوليدانو. ما ساعد على بناء علاقة تعايش كبيرة بين اليهود والمسلمين في المغرب، حيث كانت تتميز بالتعاون المثمر ماعدا في بعض فترات الجفاف والمجاعة. وفي القرن الأخير، انفتح اليهود على أوروبا، فرأى بعضهم في ذلك تحرّرا ورُقيّا اجتماعيين، وبعد قيام إسرائيل (1948)، هاجرت مجموعات يهودية إليها، فيما فضلت مجموعات أخرى الهجرة إلى فرنسا، وإسبانيا، وكندا. وعلى المستوى الجغرافي، قسم الباحث الطوائف اليهودية التي سكنت بلاد المغرب، إلى ثلاث مجموعات إثنية ولغوية، اجتماعية وثقافية، تأتي كالآتي: أ- مجموعة استقرت في الشمال: وتتكون من اليهود الذين قدموا من الأندلس والبرتغال، ويتكلمون القشتالية. ب- مجموعة تتكلم اللغة العربية: سكنت في جبال البلاد وسهولها. ج- مجموعة تتكلم الأمازيغية: سكنت في بلاد الشلوح، وتمازيغت، وسوس. وعلى الرغم من اختلاف اليهود في اللهجات المستعملة، فإن اللغة العبرية ظلت هي اللغة الأولى للشعائر والتعليم التقليدي. وقد اعتمد الباحث في هذا التوزيع الجغرافي على عدة وثائق مختلفة، منها القائمة الربية المؤرخة في 1728م، وهي قائمة اعتمد عليها عدد من الدارسين بعد أن حققوها وبينوا ما يعتريها من نقص وخلل، فضمنوها الأماكن التي أقام فيها اليهود، وهي: فاس – مراكش – تلمسان – تارودانت – سلا – تافيلالت – غرسلوين – غيريس – دمنات – أيت عتاب – أزاغين – القصر الكبير – تفزا – دبدو – أيت كفرا – مكناس – أمزميز – وجدة – تازة – بوتات الحاج – بويحيى – بني عياط – تطوان – صفرو – أزرو. ويجدر التنبيه إلى أن الكاتب لم يعتمد على هذا المسرد فحسب، بل اعتمد على بعض المصنفات التي تناولت بالذكر أسماء الأماكن التي أقام فيها اليهود، ومنها: كتاب ألفه يوسف بن داود نحمياس[5]، هذا بالإضافة إلى شهادة الربي يعقوب بن حمو[6] التي تحدثت عن مملكة يهودية تسمى "تمكروت"، إذ أكد الشاهد أن تمكروت كانت بلادا لسلطان اليهود "صمويل بن يوسف" الذي قتل في إحدى المعارك ضد المسلمين في أحد أيام 9 آب. 2- المستوى الاجتماعي: قسم المؤلف الطائفة اليهودية إلى مجموعتين عرقيتين (البلديين والمهجريين) تختلفان أصلا ولغة، كما يختلف مستواهما الثقافي ومفاهيمها الاجتماعية والأخلاقية، مما ولد صراعا بين المجموعتين، مسّ قواعد الأكل، والشرب والشعائر، وقانون الأحوال الشخصية، والضرائب. ومهما يكن من خلاف بين المجموعتين، فإن الإسلام أخضعهما لقانون الذمة، باعتبارهما من أهل الكتاب، فتمتعا باستقلال ذاتي كامل – بعد حل الخلاف – إداريا، وثقافيا… ويتعاون في إدارة الطائفة اليهودية داخل "مجلس الطائفة "، الأشخاص المختارون من الطبقات الاجتماعية: 1 – الأحبار الرسميون (حخميم)، والقضاة(ديانيم)، وهم أصحاب الأمر والنهي في الأمور الشرعية. 2 – الأعيان الذين يخدمون مصالح الطائفة العامة، ويسهرون على شؤونها، وقد يتسلطون أحيانا ليستفيدوا شخصيا. وكان هؤلاء يلقبون ألقابا تشريعية، منها: روش هقهل (شيخ الطائفة)، طوبي هعير(أخيار المدينة) مخبد هقهيلوت (أشراف الطوائف). أما النكيد (شيخ اليهود)، فهو همزة الوصل بين اليهود والسلطات الرسمية للبلاد أو المدينة، ودوره هو ضمان استتباب الأمن في الملاح، وحماية اليهود. ويسهر على القضاء بدار العدالة (بيت دين) قاض واحد (بيت دين شل يحاد) أو ثلاثة قضاة (بيت دين شل شلوش)، وتسمى المحكمة الكبرى (بيت دين كدول). أما المساعدون القضائيون، فهم كتاب العدل الموثقون "سوفريم"، ويفترض فيهم التمكن من التشريع وما تقضيه القوانين. وحدد الدارس المؤسسات اليهودية في: 1 – البيعة: وهي نقطة الالتقاء الطبيعي "للقهل" العامة، وبيت الصلاة ومقر الدرس والتعليم (حدر – يشفاه…)، كما يتخذ فيها مجلس الطائفة قرارته ويعلن عن المراسيم. 2 – الحبوس والأعمال الخيرية: وهو ما تملكه الطائفة بالشراء أو العطاء أو الوصية، فتخصصه للأعمال الدينية أو الخيرية المسماة "هقديس" (ملك يحرم التصرف فيه). 3 – تسهر الجماعة على تمويل بعض مؤسسات "تلمود توراه" (مدارس تقليدية) رغبة في التطبيق الحرفي لعدد من الأوامر والقواعد الدينية. 4 – الضرائب: تتحمل الطائفة ثقلا ضريبيا، منه ضريبة الجزية، وتؤدي سنويا ضريبة عن كل ذكر بالغ بالإضافة إلى ضرائب أخرى تؤدى في المناسبات كالأعياد. أما اليهود الذين يخدمون الملك، فيعفون من الضرائب، خصوصا النكيد (شيخ اليهود). 5 – شرطة الأخلاق: وتسعى إلى الحفاظ على احترام الأخلاق الحميدة، ونقاوة الحياة الزوجية والعائلية وفقا للعادات اليهودية التقليدية. وإلى جانب ما تقدم، خص المؤلف الطائفة اليهودية بالحديث عن العادات والتقاليد الاجتماعية التي يزاولونها في حياتهم الخاصة، ومنها بناء الحياة الزوجية التي تبدأ بالخطوبة، حيث يقدم الخطيب لخطيبته عددا من الهدايا (سابلونوت)، ويتضمن سبعة أسورة من الذهب وخاتما يحمل جوهرة ثمينة وخمارا من الحرير، ولوازم أخرى. أما الزواج فتعاقد أساسه التشريع الديني، إذ يبارك بالمباركة الزوجية أولا، وبالصيغة الشعائرية ثانيا، والزواج هو عقد يتضمن عددا من الإجراءات، وللزوجين الحق في الاختيار بين مختلف أنظمة الزّواج، وهي الصداق أو النظام التقليدي والقشتالي، وهو نظام يهدف إلى حماية مصالح المرأة في حالة وفاة زوجها أو الطلاق منه، ويمكن للزوج بالإضافة إلى عقد الزواج اليهودي (الكتوبة) أن يحرر عقدا يسمى بالصداق يقدمه الزوج لزوجته، ويتم تحريره أمام قضاء إسلامي مكون من قاض وعدلين. وأشار المؤلف إلى أن التشريع اليهودي يسمح بتعدد الزوجات في الحالات الآتية: – عقم الزوجة الأولى. – احترام وصية الليفرا.[7] ويقصد بالطلاق فسخ الرابطة الزوجية، وذلك لأسباب كثيرة نذكر منها: – الزنا، وبسببه يطلق الزوج زوجته ويسلمها (كيت). – الامتناع عن المعاشرة. – العقم، وقد حدد الشرع اليهودي ذلك في فترة زمنية تتراوح ما بين خمس وسبع أو عشر سنوات. ويحتل الموت في الفكر اليهودي أهمية كبرى، إذ يرى فيه اليهودي خلاص الحياة، وفيه يلقى حسابه بالعقاب أو النجاة. 3- المستوى الاقتصادي: زاول يهود المغرب أنشطة اقتصادية متنوعة من تجارة وصناعة وفلاحة؛ فالتجارة تمركزت بين أيدي طبقة لها رؤوس أموال وعلاقات مع المخزن. أما الصناعة فشملت ما برع فيه اليهود مثل صياغة المعادن الثمينة كالذهب والفضة والجواهر، وصناعة خيوط الذهب والفضة (الصقلي) والحرير "تاحرارت" كما تعاطوا لبعض الحرف الأخرى، مثل الخياطة والبناء (الحياطيم – هابانييم). أما المجال الفلاحي، فقد أكد بعض الدارسين على اهتمام اليهود بالفلاحة، ومنهم ناحوم سلوش الذي مرّ سنة 1914 بقرية منصور في الأطلس المغربي، فوجدها تضم خمسا وعشرين عائلة من الفلاحين، كما أكد المؤرخ الإسرائيلي ه. هرزبيرغ أن بعض يهود المغرب كانوا يعملون بعرق جبينهم في ملكيات زراعية صغيرة، هذا بالإضافة إلى من كان يملك منهم أملاكا عقارية في وادي تودغا، ولديهم حقول وعدد كبير من النخيل. وتسهم التعاونيات من جهة أخرى، في تحريك الحياة الاقتصادية داخل الطائفة اليهودية، والتعاونية (حبرا) لا تدل على تجمع مهني فقط، بل هي إطار لنشاط اقتصادي وديني وثقافي مكثف، كما كانت السلطات الربية تسهر على المنازعات العقارية والتجارية التي كانت تحصل بين اليهود محاولة الحفاظ على سلامة العلاقات بين المتنازعين، وقد يلجأ المتنازعون أحيانا إلى الشريعة الإسلامية. ويجدر التنبيه أن يهود المغرب كانوا يقيمون علاقات مع يهود الأرض المقدسة، حيث كان أحبار يأتون لجمع الأموال؛ فقد كان الأحبار الرسل يعملون على جمع الأموال أولا، ونشر المعارف اليهودية عن طريق التعليم أو الوعظ ثانيا، ولذلك كانوا يحظون بإجلال وتقدير كبيرين من طرف اليهود لما لهم من علاقة بأرض الأجداد، ويعد يوسف بن موسى ميمران[8] ورفاييل أحانا[9] من الأحبار المغاربة الذين قاموا بدور كبير في نشر التقاليد اليهودية. ومن جهة أخرى، فقد نقل الأحبار الرسل إلى المغرب مؤلفات مدرسة صفد القبالية، ومكتوبات أعمال الفقه الربي والتفاسير التوراتية والتلمودية، مما حفز على إرسال طلبة إلى حواضر الثقافة اليهودية الكبرى (القدس – طبرية – صفد) كما هاجر أحبار إلى بلدان أخرى، ومنهم: إسحاق أوزيل[10] واليهود بن أموزيك.[11] وعلى مستوى القضاء، تسمح علاقات الأدب القضائي المباشر مع الناس، والحياة وحقائق الوجود، بمعرفة الطوائف اليهودية في المغرب من الداخل؛ وذلك من خلال القضايا الشرعية التي تتناول كل الحياة العامة والخاصة، كقانون الأحوال الشخصية والبنى الاجتماعية والاقتصادية للطائفة، والنمط الإداري وما يحدث في سلوك الفرد والجماعة، والعلاقات مع الوسط الإسلامي المجاور. وأشار الباحث إلى أن المؤلفين المغاربة وضعوا عددا مهما من الكتابات الهلاخية الفقهية التي تتضمن أحكاما وقرارات قضائية وفتاوى ومراسيم. ويجدر التنبيه إلى أنه خلال القرون الأربعة التي تلت الخروج من الأندلس سنة 1492م، هيمن على التشريع الربّي مفهومان؛ مثل الأول منهما مدرسة "أشير بن يحيل" (ق14م)، وهي مدرسة تمثل امتدادا وإرثا للمدرسة الأندلسية التي نقل الربيون القشتاليون آثارها إلى المغرب بعد خروجهم من الأندلس، وظلوا محافظين على أعراف الأجداد وعاداتهم حتى وصلت آراء يوسف كارو (إسبانيا)، فانتشرت بسرعة في الأوساط الربية، يقول الدارس: "أثر عمل يوسف كارو، المتمثل في مؤلفيه "صور بت يوسف" و"شولحان عروخ" مع تفاسيرهما منذ ذلك تأثيرا كبيرا في تعليمهم الهلاخا في "اليشفوت" وفي الأحكام القضائية للمحاكم الربية والأدبيات القضائية الناتجة عن تلك الأحكام".[12] 4- المستوى الفكري: ويبدأ بالتربية والتعليم، فالتربية تعني تكيف الفرد داخل الجماعة، حيث يتشبع بنفس الروح التي تهدف إلى تكوين شعب متميز. ويسعى التعليم الأولي إلى إشراك الطفل في العبادة واكتسابه للتقاليد والتعاليم؛ وعندما يبلغ الولد الرشد؛ أي الثالثة عشر من عمره، فإنه يُحتفل به (بار مصواه)، ومن تم يصبح حريصا على القيام بالواجبات التي تأمر بها التوراة. ولا يلتحق بالتعليم العالي (اليشفاه) إلا المتأدبون الرّاغبون في اكتساب معارف عميقة، كالشريعة وأدبيات الربيين، وتعلم الجدل والتأويل، إلى جانب حفظ فقرات من التوراة. وتقف تربية البنت عند سن الزواج المحدد في ما بين سن العاشرة والثانية عشرة، إذ إن دورها منحصر في السّهر على شؤون البيت. وإذا كانت المؤسسات التعليمية التقليدية تعتمد على طرائق تربوية تقليدية (الاكتساب الآلي لقراءة الحروف الأبجدية – المراقبة الشفوية – الترهيب في التعليم …)، فإن مدارس رابطة الاتحاد الإسرائيلي سعت إلى نشر مناهج تعليمية حديثة تتضمن تعليم اللغة الفرنسية، ونشر الفكر العلماني، الأمر الذي أثار جدلا في الأوساط الربية اليهودية المحافظة. وإذا كان الفكر التشريعي هو مرآة تعكس الحياة الاجتماعية والاقتصادية والدينية للطائفة، فإن الشعر هو تعبير عن الفكر الخالص ودفق للروح وانبثاق إحساس فياض يهتز لأبسط العواطف في لحظة من لحظات الفرح أو الحزن. لذلك، أبدع اليهود في موضوعات شعرية شتى، يمكن تصنيفها على الشكل التالي: – باقشوت: وهو عبارة عن توسلات وأدعية تعلن بصدق عن علاقة الشاعر بالله والعالم. – التحنوت: شعر الابتهال، وفيه يعبر الشاعر عن ضيق النفس وطلب المغفرة من الله. – أهابوت: أناشيد الحب، وفيها يتغنى الشاعر بحب الله لإسرائيل. – الشعر الصوفي؛ وشعر الوصف. أما النثر "الميليصاه"، فهو نثر موزون ومسجوع، يراعي فيه الكاتب تقنية "شيبوص": التطريز؛ وكان الأدباء المغاربة يعمدون في مراسلة الأصدقاء إلى الميليصاه. وإلى جانب ما تم ذكره من شعر ونثر، برع اليهود في نوع أدبي آخر، وهو الأدب القبالي، والذي تمركز في جنوب البلاد (سوس – درعة – تارودانت – تافيلالت…)، حيث سادت حركة صوفية هائلة وكان بها نشاط قبالي كبير خصب وخلاق. وإذا كان الفكر الصوفي موقوفا على نخبة ضئيلة، فإن القبالة كانت تعرف في بعض جوانبها وطلسماتها التي تقارب السحر اهتماما واسعا ونفوذا شعبيا عظيما، ومن الأعلام الذين اشتهروا بالفكر القبالي، نذكر: – إبراهام الصباغ: أندلسي الأصل، ألف كتابه "صرور هامور: حصن الرخام" في فاس ما بين 1498-1501 – شمعون لابي: ألف كتابا في شرح الزوهار تحت عنوان: "كيتيم باز": "الذهب الإبريز"، كما نظم قصيدة "بار يوحاي" التي أصبحت تنشد عشية السبت، (استقر في فاس بعد نفيه من قشتالة). – إبراهام بن موردخاي أزولاي: ولد في فاس، وتلقى تعليما تقليديا وقباليا، استقر في حبرون (الخليل) في بداية القرن السابع عشر، وضع تفاسير وحواشي لدراسة الزوهار. – موسى بن ميمون الباز: عاش في تارودانت، وألف متاب "مقالات قبالية"، وكل ما يعرف عن هذا الرجل أنه عاش في دبدو شمال شرق المغرب، دفن في تامكروت في درعة، ألف كتابا عنوانه "سفر هملخوت: كتاب الملك" – إسحاق لوريا الإشكنازي: (1543-1572)، اشتهر بالأسد، وهو مؤسس مدرسة صفد. أما أدب الوعظ "دراشاه" فهو عبارة عن دروس تقدم للعامة، وتتضمن تفسيرا لمعنى الكتاب المقدس ولمغزاه التاريخي، وغالبا ما تستمد الخطب الوعظية من التوراة، وخصوصا "الهاكاداه" (الأسطورة) التي تعتمد في موضوعاتها الخيال. ويبدأ التدريب على الخطبة في مرحلة مبكرة جدا، بدءا من احتفال "بار مصواه". ويبقى الأدب الشفوي الحارس الأمين على التقاليد غير المكتوبة، فهو يمس القضايا الاجتماعية والتاريخية، ويتميز بإدخال الخيال في البيئة المغربية، كما يهتم بالأنساب الدينية. وإذا كان الأدب الشفوي مكتوبا، فإن ذلك يحدث صدفة كي لا ينسى. 5- المستوى الديني والشعائري الشريعة "الهلاخا" لفظة مشتقة من الفعل العبري "هلخ"؛ أي سار (شرع)، والهلاخا في معناها العام، القواعد التي يجب السير عليها؛ أي الطريق المستقيم، وتقابل لفظة هلاخا، الشريعة في الدين الإسلامي. وقد أخلص اليهود المغاربة للعادات والأعراف القديمة التي أقرتها المراسيم، كما ارتبطوا بالتقاليد التي ورثوها عن أجدادهم، ولذلك كان الربيون المغاربة يستندون في كتاباتهم الشرعية على الأقوال القديمة "المشنية" والتلمودية المتعلقة ب"لمنهك"؛ أي العادة. وتحتل "الكونة"، وتعني تركيز الذهن، مكانا مفضلا في الصلاة الصوفية، فهي إحدى مكوناتها السيكولوجية المهيمنة كما احتل فعل الحلول "اليحوديم" مكانة خاصة في الصلاة كذلك، وهو تأمل في تركيب حروف يهوه أو أسماء الله الأخرى، كما يهدف صاحبه إلى السمو بالروح من أجل التواصل مع الأرواح أخرى "الصديقم: الصديقون". ومن أبرز الشعائر الدينية التي زاولها اليهود في احتفالاتهم الكبرى، نذكر: احتفالات يوم السبت واحتفالات بداية الشهر (روش حودش). تتخلل السنة ثلاث مناسبات للحج (شلوش ركليم)، وهي: بصح (عيد الحصاد) شفعوت (الأسابيع)، سكوت (عيد الخيام). إضافة إلى إحياء بعض المناسبات التاريخية مثل "حنوكة" و"بوريم". على سبيل الختم: تذكرنا قراءة كتاب "ألف سنة من حياة اليهود بالمغرب" بعدد من الكتابات التي تناولها الأستاذ حاييم الزعفراني بالدرس في موضوع اليهودية المغربية، مما يجعلنا نقر أن هذا الكتاب هو ثمرة كتابات سابقة، اختمرت موضوعاتها في ذهن الكاتب، فألف هذا الكتاب، الذي جمع فيه بين التاريخ والاجتماع والفكر والدين، كما رام فيه المنهج التاريخي، والاجتماعي والوصفي، زد على ذلك أسلوب التوضيح والتبسيط، وكأن الدارس يشرح ويفسر ما سبق تناوله بالدرس في كتاباته السابقة. وتجدر الإشارة إلى أن المؤلف أعاد طبع الكتاب في حلة وعنوان جديدين سنة 1998، فجاء موسوما ب: ألفي سنة من حياة اليهود بالمغرب: Deux milles ans de vie juive au Maroc[13] دون أن يقدم فيه شيئا جديدا. يقول الأستاذ أحمد شحلان: "…وهو كتاب سطر فيه المؤلف حياة هؤلاء الناس منذ كانوا مواطنين مغاربة أصلا رفضوا الوثنية أيام جاهلية التاريخ قبل الإسلام، ومنذ وصلت بعض موجات منهم قدما في ركاب الفنيقيين أو أرذاذ الرومان، أو بعد أن تنكرت "إزبلا" ملكة الإسبان لجميل التاريخ، فهجرت منهم أمواجا وأمواجا، ففتح لهم المغرب الذراع، ومكن لهم في كل أرجائه، وهو يستقبلهم ورفاقهم المسلمين المنكوبين وإياهم، دون تمييز بين هؤلاء وهؤلاء، وأرخ الأستاذ الزعفراني فيه ليهود المغرب، وهم ينشطون في كل مناشط الحياة مذ ذاك، ووصف أحوالهم، وهم يعيشون أفراحهم وأحزانهم وأفراح مواطنيهم المسلمين وأحزانهم…."[14]
[1] حاييم الزعفراني، ألف سنة من حياة اليهود بالمغرب، (ترجمة د. أحمد شحلان ود. عبدالغني أبو العزم)، ص 7 [2] يقع ملاح فاس الجديد بين القرويين وباب الكيزة، ويسمى (فندق اليهودي). [3] تبعد أغمات على مراكش بحوالي 40 كلومترا. [4] الكنيزة أو مخزن الوثائق، تتضمن وثائق تم اكتشافها في البيعة القديمة بالقاهرة- مصر، أواخر القرن الأخير. [5] ربي طيب الذكر عند يهود مراكش والجنوب المغربي (المؤلف). [6] من يهود بني صبيح، جنوب المغرب (المؤلف). [7] الليفرا؛ إلزام يفرضه الدين اليهودي على كل أخ توفى أخوه، فيلزمه بالزواج من الأرملة التي لم تنجب من أخيه المتوفى، حتى يضمن لهذا الأخير دوام النسل. [8] يوسف بن موسى ميمران، ولد في تطوان وهاجر إلى صفد، وهو أول حبر يصل إلى آسيا الوسطى، ليعمل مرشدا روحيا ببخارى. [9] رفاييل أحانا، ولد في مكناس عام 1850، هاجر مع جده إلى طبرية عام 1865، ورحل رسولا في سن الثلاثين، قام برحلة إلى المغرب في 1897، حصل على إجازة الأحبار من مكناس. (المؤلف). [10] نحوي وشاعر، عين حبرا بأمستردام وتوفي بها سنة 1620م [11] ناشر مشهور، نشر كثيرا من مؤلفات يهود المغرب، ترك مدينة الصويرة واستقر في إيطاليا. [12] المرجع نفسه، ص176 [13] Zafrani Haim, deux milles ans de vie juive au Maroc, Paris, Geuthner, 1998 [14] مقدمة كتاب "يهود الأندلس والمغرب" حاييم الزعفراني، ترجمة أحمد شحلان، ص 11