بعيدا عن لغة التشنج والانفعالات،يحق لنا أن نسأل : لماذا يصاب "النظام السياسي" بهذه الحالة من الهستيرية،كلما واجه خروج فئات شعبية إلى الشارع للتعبير عن احتجاجها ورفضها سياسات معينة ؟ لماذا يسارع إلى كيل الاتهامات المتسرعة للمحتجين،بدل الإنصات الحكيم إلى مطالبهم ؟ أليس "النظام السياسي" مسؤولا عن السياسات التي ينهجها،والتي تمس المواطنين في صميم حياتهم؟ لماذا يصر دائما على المقاربة الأمنية في مواجهة المواطنين المحتجين ؟. نشير هنا إلى أننا سوف نستعمل،في هذه المقاربة،مفهوم "النظام السياسي" ومفهم الدولة"،ولن نستعمل مفهوم "الحكومة"،نظرا لأننا نعرف ضعفها وعدم قدرتها على اتخاذ القرارات الحاسمة،ذلك لأن النظام السياسي نفسه يعاني من تبعية جل الأحزاب المشاركة في السلطة لحزب سري غير معلن هو الذي تصدر عنه القرارات المصيرية ويرسم الخطوط العامة للسياسات في المغرب،وهذا ليس أمرا جديدا،لقد كان "الاتحاد الاشتراكي" في عز معارضته أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات يسمي هؤلاء الفاعلين السياسيين النافذين ب"الحزب السري" لأنهم لا يكشفون أبداً عن دورهم ووظيفتهم الفعلية،ويتركون أمر تسويق القرارات لأعضاء الحكومة.ومن هنا غالبا ما نجد مثلا تناغما كبيرا في المواقف بين كل هذه ألأطراف فيما يخص "الاحتجاجات الشعبية". لسنا بحاجة إلى الكثير من البراهين لإثبات أن الاحتجاجات ذات الطابع الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي وليدة النظم السياسية الديمقراطية،إنها من الآليات التي يشتغل بها النظام الديمقراطي.ما دام النظام الديمقراطي يقوم بالأساس على الآلية الانتخابية عبر صناديق الاقتراع التي تعبر عن أصوات المواطنين،فمن الطبيعي جدا أن يحتج المواطنين على هؤلاء الذين نجحوا في الانتخابات،لأنهم في النهاية صوتوا على "سياسيين" ولم يصوتوا مطلقا على "ملائكة" أو "أنبياء" أو "أولياء الله الصالحين"،صوتوا على سياسيين بشر قد يصيبون وقد يخطئون،قد يعبرون عن استقامتهم أو قد تصيبهم لوثة الفساد.وفي نهاية المطاف،ووفق هذا المنطق،يبقى المواطن شريكا في الوطن عبر مفهوم "المواطنة" الرابط السياسي المشترك بين مجتمع المواطنين،والمواطنة تستدعي الحقوق والواجبات التي تقرها "القوانين" المستمدة من "العقد الاجتماعي" أو "الدستور" الذي يلزم الجميع بواجباته ويمنح الجميع حقوقه.فمن واجبات المواطن أداء "الضرائب" المباشرة وغير المباشرة التي منها يستخلص المسؤولون السياسيون رواتبهم الشهرية ليقوموا بمهامهم الوظيفية،إذن من حق المواطنين "الاحتجاج" على هؤلاء المسؤولين إذا أخلوا بمهامهم أو انحرفوا عنها،لارتباط هذا الحق في "الاحتجاج" بواجب أداء الضرائب التي تستخلصها الدولة من المواطنين،وإلا سيظل المواطنون دافعو الضرائب مثل تلك البقرة الحلوب التي تفرغ حليبها في جوف حفنة من المحظوظين وهي صابرة على تجويعهم لها وإنكارهم لوظيفتها الجوهرية. يبقى أن نطرح هنا مفارقة غريبة تطبع الأداء السياسي الذي يعبر عنه "النظام السياسي" المغربي،وهي أنه يصر،في خطابه السياسي،على أن يعرض نفسه باعتباره نظاما ديمقراطيا يضمن "حرية التعبير" ويدعم "حقوق الإنسان" كما سطرتها العهود الدولية،وهو خطاب غالبا ما يكون موجها إعلامياً للخارج،لكنه في الممارسة السياسية،الموجهة للداخل، يناقض خطابه الدعائي ويدعن للمقاربة الأمنية ضد احتجاجات المواطنين،بعد أن يمهد لها بحملة تشويه متعمد لنوايا المتظاهرين وأهدافهم،بل يعتقل عددا منهم ويحاكمهم على أساس تلك الاتهامات التي تضمنتها الحملة التي قام بها مسبقا.ففي أحداث "يناير 1984"،ربط الراحل "الحسن الثاني" الاحتجاجات الشعبية بثورة الخميني،ووصف المحتجين بالأوباش،وهدد أهل الريف قائلا إنهم يعرفونه عندما كان "وليا للعهد"،في إشارة واضحة لأحداث 57/1958،وإن عليهم أن يتصوروا ردة فعله الآن وقد أصبح "ملكا".أما خلال الأحداث الجارية اليوم في الريف تم تسطير سيناريو شبيه في عمقه لما سلف ذكره،اتهم أهل الريف بالانفصاليين،وبقبول الدعم الخارجي،وبالمس بالمقدسات،وزعزعة أمن واستقرار أمن البلاد،بل تم اعتقال نشطاء منهم،وتمت محاكمتهم على هذا الأساس.بينما نجد أن الحراك الريفي قدم ملفا مطلبيا سطر فيه مطالبه الاجتماعية،وهي المطالب التي اعترفت أطراف مقربة من "النظام" أنها تم الاتفاق عليها،ولم تعرف طريقها نحو التنفيذ.الأمر الذي يثير الكثير من الغموض حول استمرار "وزارة الداخلية" في مقاربتها الأمنية العنيفة ضد المحتجين،رغم أن الجميع اعترف بصواب مطالبهم.لماذا ؟ هل يخاف أصحاب القرار من نجاح "الحراك" في الريف وامتداده نحو مناطق أخرى تعاني نفس المشاكل ؟؟ هذه المفارقة الصارخة التي تطبع النظام السياسي المغربي التي تحدثنا عنها بين نوعية الخطاب السياسي الدعائي وطبيعة الممارسة السياسية الفعلية في الميدان،جعلت الدولة المغربية تتأرجح بين الاستبداد والديمقراطية،فلا هي قادرة على الكشف عن وجهها السافر القمعي الاستبدادي،ولا هي قادرة على ترسيخ دولة الحق والقانون بكل ما يلزم من الاحترام للمواطنين،هل هذا التأرجح المزمن هو ما يمكن تسميته ب"الانتقال الديمقراطي"؟ لكن علينا أن ننتبه أن "دولة المغرب" أعلنت بداية "الانتقال الديمقراطي" سنة 1975،ونحن الآن في العقد الثاني من الألفية الثالثة،ولا يزال حالنا كما كان أو أسوأ في مناح كثيرة.إن مفهوم "الانتقال" يعبر عن "المؤقت" المحدد في الزمن،زمن العبور من حال إلى حال،من حال "الاستبداد" أي تهميش أفراد الشعب واحتقارهم باعتبارهم "رعايا" يحكمهم حاكم يستمد شرعيته من "الحق الإلهي"،إلى حال "النظام الديمقراطي" أي اعتبار أفراد الشعب مواطنين شركاء في الحكم يربطهم ب"الحاكم" ميثاق "العقد الاجتماعي"،يمنحهم الحق في محاسبته،والحق في الاحتجاج على سياساته. على هذا الأساس،سيظل نمط التعامل مع "الاحتجاجات" الشعبية هو المعيار الأول لقياس مدى تقدمنا في ترسيخ دولة الحق والقانون وترسيخ الأعراف الديمقراطية في "دولة المواطنة"،أو مدى تشبث النظام باستبداديته وإمعانه في احتقار المواطنين والإصرار على حصرهم في دائرة "الرعية" المستسلمة لمشيئة "حاكم" مفروض بتفويض من "الحق الإلهي".هل سيستطيع النظام السياسي المغربي تجاوز هذا "المؤقت" المسمى "الانتقال الديمقراطي"،وكسر حلقته نحو نظام ديمقراطي لا مجال فيه للقمع وسحق إرادة المواطنين؟؟ أم سيظل المغرب سجين هذه الحلقة المفرغة المشوهة،التي بدل أن يكون "الانتقال الديمقراطي" مؤقتاً،سيظل فيها "مؤقتا دائما !!" إلى أجل غير مسمى،على حد تعبير المفكر المغربي الراحل "محمد عابد الجابري"..