اكبر انتصار حققته الادارة الامريكية الحالية هو نجاحها في توظيف عرب لمكافحة "الارهاب" نيابة عنها، بينما تقف هي موقف المتفرج او الموجه من بعيد، ودون ان تخسر جنديا واحدا من جنودها، انها عبقرية امريكية وغباء عربي. فجأة.. وبعد سنوات، او حتى عقود، بدأنا نشاهد طائرات عربية، وطيارين عربا، يطيرون ببراعة، ويقصفون اهدافا، ويقتلون اعداء، ويدمرون منازل، ومن المؤلم ان جميع الضحايا من العرب، وجميع المنازل المدمرة لعرب مسلمين ايضا، وفي بلدان عربية. في الماضي القريب، بل القريب جدا، كان العرب يذهبون الى مجلس الامن الدولي للاحتجاج على عدوان اسرائيلي، او لاستصدار قرار بوقفه او يثبت الحق العربي، الان انقلبت المعادلة، وبات العرب يذهبون الى المجلس نفسه من اجل طلب التدخل العسكري في دولة عربية او اكثر تحت عنوان مكافحة الارهاب والقضاء على اخطاره، والقتال الى جانب اساطيل جوية وبحرية اوروبية وامريكية. سامح شكري وزير الخارجية المصري يتواجد حاليا في نيويورك من اجل هذا الهدف، وهو الذي لم يفعل الشيء نفسه، ولا اي من زملائه العرب، عندما كانت الطائرات والزوارق الحربية والدبابات والصواريخ الاسرائيلية تقصف عربا ومسلمين في قطاع غزة لاكثر من خمسين يوما، وتقتل 2200 منهم، ثلثهم من الاطفال، علاوة على اصابة اكثر من عشرة آلاف وتدمير ما يقرب من الالف منزل، اليس هذا اشرس انواع الارهاب، اوليس ضحاياه من البشر والاشقاء ايضا، وهل اصبح الارهاب الاسرائيلي "حميدا" يا اصحاب الضمائر؟ *** قتل 21 قبطيا مصريا ذبحا على ايدي عناصر تابعة ل"الدولة الاسلامية" في ليبيا جريمة بشعة بكل معنى الكلمة، ومدانة بأقوى الكلمات والعبارات، ولكن اليس من حقنا ان نطالب السلطات المصرية، والمجتمع الدولي الذي تستنجد به لنصرتها، وتوفير الغطاء الدولي لغاراتها في ليبيا، بالمعاملة نفسها لاطفال غزة، واطفال قانا في جنوب لبنان؟ وهل وقفت الدول الغربية هذه الى جانب مصر وضحايا مجازر اسرائيل في مدن القناة ومدرسة بحر البقر اثناء حرب الاستنزاف. يشكلون تحالفا دوليا من ثلاثين دولة لغزو العراق واحتلاله، وآخر من 150 دولة كأصدقاء لسورية لتوفير الغطاء للتدخل في هذا البلد، وثالث من ستين دولة لمحاربة "الدولة الاسلامية" واقتلاعها من جذورها، ولكن لا احد يجرؤ، عربيا كان او غربيا، لادانة المجازر الاسرائيلية. نعم المقارنة في محلها، وسنظل نتحدث عن فلسطين وجرائم اسرائيل، والازدواجية الامريكية والنفاق العربي ما دمنا احياء وقولوا ما شئتم. الجميع الآن يطالبون بتدخل دولي عسكري في ليبيا، ولكن هل نسي هؤلاء ان التدخل الدولي الذي تم قبل اربع سنوات، وبغطاء عربي وفرته الجامعة العربية، ومولته دول عربية خليجية شاركت فيه بطائراتها وجنودها (قطر والامارات والسعودية)، هو الذي ادى الى تحويل ليبيا الى دولة فاشلة، تحكمها ميليشيات مسلحة، وتسودها الفوضى الدموية، فمن يضمن لنا ان التدخل العسكري الجديد المنتظر سيكون افضل حالا؟ نحن نتابع حالة من الهستيريا تعم المنطقة حاليا، على غرار تلك التي سادت تحت عنوان زحف قوات نظام العقيد معمر القذافي لارتكاب مجزرة في بنغازي، وقبلها لقرب نجاح معامل الرئيس الراحل صدام حسين لانتاج اسلحة نووية واستخدام اسلحة كيماوية ضد خصومه، واكتشفنا الكذب في الحالين، ولكن بعد خراب مالطا، اي بعد احتلال العراق، وتفكيك ليبيا، وتشريد نصف شعبها الى دول الجوار في مصر وتونس. نسأل، وبدون براءة، عن ارقام القتلى والجرحى الليبيين الذين قتلوا حرقا بصواريخ طائرات حلف الناتو، هل هم الف او عشرة آلاف او مئة الف، وكم عدد اشقائهم الذين سقطوا برصاص الميليشات والحروب الاهلية والقبلية بعد اطاحة النظام الليبي، وكم عدد القتلى الجدد الذين سيسقطون بشظايا صواريخ طائرات لاي تدخل عسكري جديد. عشرات الجنود يتساقطون شهريا في سيناء في حرب الاستنزاف التي يخوضها الجيش المصري ضد "الجماعات الارهابية" منذ سنوات، وعشرات وربما مئات القتلى من المدنيين يسقطون ايضا، ولا بواكي لهم، فهل طلبت مصر تدخلا عسكريا دوليا للقضاء على الارهاب في هذه المنطقة؟ نتفهم غضب السلطات المصرية، مثلما نتفهم المناشدات الشعبية المصرية التي تطالب بالثأر للضحايا الاقباط، وسط حشد اعلامي تحريضي موجه وغير مسبوق، ولكن ما لا يمكن ان نفهمه او نتفهمه، هو استغلال هؤلاء الضحايا، بحسن نية او بسوئها، لجر مصر وجيشها الى حرب استنزاف اخرى قد تستمر سنوات، ويسقط فيها آلاف الضحايا من المصريين والليبيين معا. القصف الجوي المصري او الدولي لن يقضي على التنظيمات الاسلامية المتشددة مثل "الدولة الاسلامية" و"انصار الشريعة"، و"القاعدة"، و"التوحيد والجهاد"، والا لقضى عليها اثناء الحرب على "الارهاب" في افغانستانوالعراق والآن في سورية، ولا بديل مطلقا عن الحرب البرية، وحتى هذه غير مضمونة النتائج ايضا، والتجارب الامريكية تغني عن اي اسهاب، ونحن نعرف جيدا ان امريكا وفرنسا وايطاليا التي تقرع طبول الحرب لن ترسل جنديا واحدا، وستترك هذه المهمة للجيش المصري، فهل هذا الجيش الذي لم يخض اي حرب منذ اربعين عاما، مهيء لخوض حرب عصابات في دولة تزيد مساحتها عن مليون كيلو متر مربع، وتعج بالميلشيات والقبائل المسلحة، ولا توجد فيها حكومة مركزية او غير مركزية. فاذا كان هذا الجيش يواجه صعوبات كبيرة في القضاء على "جماعات ارهابية" في صحراء سيناء التي لا يزيد عدد سكانها عن 300 الف مواطن ومساحتها عن ستين الف كيلومتر مربع معظمها منبسطة، فهل سينجح في القضاء على امتداداتها، او شقيقاتها، في ليبيا؟ *** الجيش المصري يهرول مغمض العينيين الى محرقة تتواضع امامها محرقته السابقة في اليمن السعيد، لان الجماعات المسلحة في ليبيا اكثر تسليحا واكثر خبرة في المواجهات العسكرية الميدانية، وبعضها يملك اسلحة كيماوية تركها جيش القذافي في براميل في العراء، علاوة على اكثر من خمسين مليون قطعة سلاح عن كل الاحجام والاثقال. مؤسف جدا ان نرى ونسمع السيد عمرو موسى امين عام جامعة الدول العربية السابق يطالب بتدخل عسكري في ليبيا بتفويض من الاممالمتحدة، وهو الذي ارتكب خطيئة توفير الغطاء العربي لتدخل الناتو عام 2011، وندم عليها ندما شديدا عندما رأى النتائج الكارثية.. الا يتعلم هؤلاء من اخطائهم وخطاياهم، الا يجب عليهم ان يتوقفوا عن تغيير مواقفهم، ولون جلودهم، مثلما يغيرون احذيتهم، وفق متطلبات مصالحهم الشخصية الضيقة واولها العودة الى الاضواء؟ ندرك جيدا ان طابورا جاهزا سيلجأ الى تأويل مواقفنا تأويلا خاطئا، لانه لا يملك الحجة للرد على هذه الحقائق التي سردناها، وندرك اكثر ان هناك من سينبري ويطالبنا بتقديم حلول بديلة. اقول بالفم المليان، اننا لسنا الجنرال روميل ولا الجنرال مونتغمري، ولا نابليون بونابارت حتى نفرد خرائطنا العسكرية على الطاولة ونقدم الحلول، كما لسنا الذين خلقنا هذه المشكلة حتى نحلها، ولكن نرى ان من واجبنا، ونحن الذين حذرنا من اخطار تدخل حلف الناتو وطائراته في ليبيا، وتوقعنا هذه النتائج الدموية البائسة له، وعلى رأسها تحول ليبيا الى دولة فاشلة ممزقة، وغابة سلاح، ومرتع لتنظيم "القاعدة" واخواتها وبنات عمها وتعؤضنا لابشع انواع الشتائم والسباب والاتهامات، من حقنا ان نحذر مرة اخرى من خطر اكبر ليس على ليبيا فقط، وانما على مصر والجزائر وتونس ايضا، فالكارثة التي زرعها حلف الناتو في هذا البلد باتت تهدد حوض البحر المتوسط بأسره، شماله وجنوبه وشرقه، قبل ان تهدد ليبيا وما تبقى منها ومن سكانها. اللهم قد حذرنا سابقا، ونكرر التحذير نفسه بعد اربع سنوات، اللهم فاشهد.