أسدل الستار،في الأسبوع المنفرط، على المعرض التشكيلي الذي أقامه الفنانون الثلاث : يوسف الحداد،محمد غزولة،محمد أكوح،في "قاعة العرض" ب"دار الثقافة" بتطوان.معرض يحتضن ثلاثة فنانين،يعبرون فنيا وإبداعيا بثلاث لغات مختلفة ومتباينة،لكنها ترنو لنفس الأفق وتستظل بنفس السماء. فضاء تتوزع فيه كائنات "يوسف الحداد" ذات الملامح الحائرة،كائنات في حالة شرود وتيه مستمر،تبحث عن "شيء" ما،ربما عن "هوية" أو عن زمن ضاع أو زمن مفقود؟ كائنات شُكلت من خيوط تبدو واهية غير متماسكة،بأفواه فاغرة مندهشة؟ وعيون غائرة.كائنات تشرئب بأعناقها لتنفلت من "قوقعة" التنشئة الاجتماعية،نحو آفاق الحرية والبحث عن "الذات"، تكاد تسمع صراخها وهي تولد من جديد،تسمع صرخة ألم الانفصال عن "القوقعة"، هذا الصراخ "ثمن" الحرية والاستقلالية،ألم التمزق الذي ينتج التعارض بين قوة جذب القوقعة نحو الداخل، وقوة اندفاع الجسد نحو الخارج، نحو مصيره المجهول الغامض،نحو ما يجعل الحياة ممكنة، نحو آمال وأحلام متجددة. كائنات،دائما،في حالة قلق واضراب،قلق البحث المستمر عن الذات،عن الفرادة والتميز، البحث عن التحرر من "هلامية" الجمعي والجماعي.كائنات تسكنها الموسيقى أو تسكن الموسيقى،في حالة وُجد وانصهار مع نغم نسمعه في اللوحة،نغم من ألم،نغم من حسرة ومن ضياع… يفاجئك "محمد أكوح" بأنماط بشرية عارية إلا من جلدها،تنظر غالبا إلى أعلى،أنماط بشرية محصورة،في الغالب الأعم،بين الأحمر البرتقالي والأزرق المائل للانفتاح،بين انحباس الواقعي المضغوط بالقهر والتسلط،إلى رحابة الحياة المأمولة واتساعها المفتوح على الزمن الآتي،أنماط بشرية مزق جلدها عنف السياج المانع في اندفاعها نحو مصيرها، بعد أن نبتت من أرض الواقع الاجتماعي معزولة في "أصص" رمزية تشير إلى الانعزال والغربة، لكنها ترنو إلى الانعتاق من "المحلي" الضيق إلى "الكوني" الرحب والإنساني،حيث الإنسان عار من كل مذهب أو عقيدة مغلقة تلفه وتحميه من "قلق" الوجود، ومن قلق البحث عن بصمته الخاصة، وتوقيعه الخاص، تحميه من ضرورة الجواب الفردي والفريد عن "شعلة الحياة"… ينشر "يوسف الحداد" لغته من خلال نصوصه "المرئية" يمين قاعة العرض، تقابلها يسارا إبداعات "محمد أكوح"،وفي الوسط ينثر"محمد غزولة" كائناته الحديدية الموزعة بين الكائن البشري وما يدل عنه،هنا الإنسان لا ينفصل عما ينتجه من آلات، ولا ينفصل عن محيطه الاجتماعي وتاريخه،يزرع "محمد غزولة" الحياة في المهمل المنسي المهمش،في "بقايا" أشياء انقضى عمرها الافتراضي، لتحيى في رحاب قاعات "العرض"، تحكي عن الانسان عن تاريخه وفعاليته وانتاجاته،يد الفنان هنا مثل يد الساحر، تغير "هوية" الأشياء،تحول "الأشياء" التي كانت "أدوات" استعملها الإنسان، إلى نصوص إبداعية "تحكي" عن الإنسان،في حالاته المتعددة ،تراه هنا يلاحق "العطش" في المكان،ليمد الآخرين بجرعة ماء،وهناك ينتصب بقامة عالية نحو حدود المستحيل ممتطيا جواده ومصوبا بندقيته نحو المجهول الغامض،أو هنالك منتشيا باندماجه التام في نغم إفريقي إيقاعي يعج بالحياة،كيف تقحم يد الفنان "الحركة" فيما يبدو جامدا قاسيا لا يتحرك؟..كيف تستطيع أن ترى "كمانا" مثلا في حالة عزف؟ أو "إنسانا" في حالة "جذب" أو اندفاع فرس نحو الأمام؟ وفوقه فارس يهم بإطلاق النار؟ كيف تسمع الطلقة في حديد أخرس؟… ثلاثة فنانين،ثلاث لغات متباينة في إبدعاتها ووسائل تعبيرها،قاعة عرض واحدة، أفق واحد يسمح بالتعدد والاختلاف،نحو الإنسان الواحد في تعدده،المتعدد في وحدته،"الإنسان" القادم من أزمنة بعيدة آتية لا ريب فيها…