القرآن تحدانا في حدود الوظيفة التي جاء من أجلها .. و هو تحقيق الهداية و الاحياء على مستوى الروح و الوجدان كثيرا ما يتساءل المتأمل و هو يستقري الحقائق الكونية و الطبيعية المصرح بها في القرآن الكريم و السنة النبوية ما اذا كان ذلك يعتبر اعجازا علميا ينضبط بالشروط المؤسسة لمفهوم الاعجاز ، ام أن المسالة لا ترقى الى هذا المستوى من التحدي الذي يصطلح عليه العلماء في العادة بالإعجاز ، و انما المسالة في مضمونها هي عبارة عن سبق معرفي كبير تميزت به المعرفة الاسلامية منذ الفترة الاولى من بداية نزول الوحي و بدء الدعوة و قبل هذا الانفجار العلمي الكبير الذي تعرفه مراكز البحث في العصر الحديث و الفترة المعاصرة ؟ و يبدو انه من اجل تدقيق المفارقة في سياق التساؤل المطروح لا بد من التمهيد بالعنوان التالي : الاعجاز العلمي و السبق المعرفي هناك طبعا فرق بين مسمى الاعجاز العلمي و ما يمكن ان نصطلح عليه بالسبق المعرفي في نظرنا، ذلك ان الاعجاز العلمي ينبغي في البداية ان ينضبط بمفاهيم البحث العلمي التي تأسست ثم تطورت مع تقدم المناهج البحثية في الحقول العلمية المختلفة ما بعد فترة الوحي في الاسلام ، لان صفة ((العلمي )) التي تضاف في الاستعمال الى الاعجاز عند المشتغلين بهذا المجال تحيل في الواقع الى تلك الحقول المعرفية التي اعتمدت المنهج التجريبي في كشف الحقيقة العلمية المختبئة وراء الاشياء . و هو ما يجعل من الاعجاز العلمي من حيث المبدأ تحديا موجه ضد صنف العلماء التجريبين و المختبريين الذين يشتغلون ضمن مختلف الحقول العلمية التي اتخذت من التجربة المختبرية منهجا و اساسا لها . و هذا يفترض ان القرآن الكريم اثناء نزولاته عاصر الكثير من مظاهر التقدم العلمي التجريبي و وجود باحثين متخصصين في العلوم التجريبية ، و بالتالي عمل على تعجيزهم و تحداهم على ان يأتوا بمثل ما اتى به من معارف علمية لصيقة باختصاصاتهم فعجزوا عن ذلك مما يعطي امكانية وقوع ما نسميه (( بالإعجاز العلمي)) . تماما كما فعل ما فصحاء و بلغاء العرب ، حيث تحداهم بمثل اختصاصهم و لغتهم فعجزوا عن محاكاته ، فكان ذلك اعجازا لغويا بما في الكلمة من معنى وإن كان هذا النوع من الاعجاز اللغوي ليس هو اولوية القرآن فيما اطلقه من تحد و اعجاز ، و انما اولويته بالمقام الاول هو الاعجاز المرتبط بتحقيق الهداية و القدرة على الاحياء الروحي و الدلالة على معرفة الله لان تلك هي الوظيفة الاساسية التي جاء من اجلها الوحي، و هي موضوع تحد قائم و باق الى يوم الدين . و لكن الواقع على مستوى الاعجاز العلمي يثبت ان تحدي القرآن لعلماء مختصين في علوم تجريبية لم يحدث زمن نزول الوحي، و لا حينما كان النبي (ص) يكاشف الناس بأسرار الكون و الطبيعة عن طريق علم النبوة من اجل اقامة الحجة على حقائق الالوهية و المساعدة على هداية البشرية .. لان علماء مختصين من هذا الصنف لم يكن لهم وجود حتى يوجه لهم التحدي القرآني او النبوي . الشيء الذي يجعلنا نخلص الى ان الاعجاز العلمي بالمعنى الذي يقاس على شروط الاعجاز اللغوي استعمال في غير محله . و أن الاليق بالاستعمال هو السبق المعرفي أو العلمي . بمعنى ان المعرفة القرآنية التي هي الجزء التأسيسي للمعرفة الاسلامية قد سبقت علماء البشرية و سبقت المعرفة العلمية الحديثة الى الكشف عن كثير من الحقائق الكونية و الطبيعية التي ظلت مجهولة عند الانسان حتى امد بعيد . كما في حالة هذا النص الكريم الدال بعبارته على تكور الليل و النهار في قوله تعالى : (( خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ . يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ . وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى. أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ )) الزمر / الاية 5 . فقد يؤخذ منه ان عملية تعاقب الليل و النهار هي اثر حتمي لعملية تكورية التي هي من خصائص دوران كوكب الارض حول نفسه . و هو الشيء الذي لم يستطع العلم التجريبي المتخصص في دراسة الفضاء و حركة الارض بعد تطوره فيما تلا من العصور ان يثبت عكسه أو يتجاوزه . فكان هذا فعلا سبقا معرفيا للقرآن الكريم لم يتم عن طريق البحث و الرصد التجريبي و انما عن طريق الوحي الالهي الصادر عمن احاط بكل شيء علما . وظيفة النص القرآني و تأكيد نظرية السبق المعرفي إنه انطلاقا من واقع وظيفة النص القرآني وسياق نزوله و مقاصده ألأساسية حينما قصد بالتدريج إلى إثبات عجز الانس و الجن على أن يأتوا ولو بسورة أو حديث مثله (1) يكون على منواله في تحقيق الهداية للبشرية و دلالة الناس على معرفة خالقهم و اخراجهم من الظلمات الى النور ، و هذا هو (( المِثْل المعجز )) الذي تم التحدي به من قبل القرآن في مناسبات مختلفة (1) ، لأن المثل المقصود هو ذاك الروح القرآني المعلن عنه بقوله تعالى في سورة الشورى : (( وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم ( 52 ) صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور ( 53 ) )) . فهذا (( الروح القرآني )) بمعنى القوة الروحية المودعة في الكتاب و المتحولة على هيأة الايمان و الذي يصفه رب العزة بأنه نور يهدي به من يشاء من عباده هو موضع التحدي و الاعجاز اولا و آخرا اما باقي الاعجازات المتحدث عنها من لدن العلماء انما هي ثانوية و ليست مقصودة بشكل رئيسي ، فلا أحد بمستطيع أن يأتي بمثل الروح القرآني لأنه شان الهي محض ، و لأنه الروح الذي يحيي الهياكل الجامدة الغافلة عن معنى العبودية و المعرضة عن الاتصال بخالق الكون ، فكما ان الانس و الجن عاجزون على نفخ الروح في الاجساد ، فكذلك هم عاجزون على نفخ روح الهداية فيما يمكن ان يأتوا به من انواع الكلام و نظمه يضاهون به القرآن و لسان النبي (ص)، بل و نفخه في انواع معارفهم مهما تقدمت في الطبيعيات و العقليات وأنواع التشريعات التي كان يوجد الكثير منها عند اهل الكتاب أو يمكن لهم ان يسنوه للناس أو يطوروه مع الزمن مع التطور التشريعي و العلمي و المعرفي .. كما فعل القرآن و فعل النبي (ص) من خلال سنته حيث انتعشت بهما حياة الناس الروحية و استضاء وجدانهم و انتقلوا من الظلمات الى النور ، و هي تجربة لا يعرف حقيقتها إلا من شهدها و تفاعل معها . و هو الواقع ذاته الذي يمكن ان نحمل عليه مجمل التحدي و الاعجاز الوارد في النصوص الشرع المختلفة . اعتبارا لهذا الواقع، يمكن أن نقرر أن القرآن الكريم لم يأتي من اجل الاعجاز العلمي بالمفهوم المتداول ، و لا انه تحديدا جاء ليعلمنا المعارف العلمية التي يتم اكتسابها عن طريق التجربة و الاختبار و انما جعل ذلك موكولا الى اجتهاداتنا في مجال البحث و الدراسة و حث على ذلك من خلال ايات كثيرة ، و كما قال النبي (ص) : (( انتم ادرى بشؤون دنياكم )) . و بالتالي فإن مختلف الحقائق الكونية الثابتة بالقرآن و السنة انما هي سبق معرفي على الوجه الاصح ، و نقول سبقا معرفيا و ننسبه الى المعرفة و ليس الى العلم ، لان المعرفة في التداول المعاصر قد تكون تجريبية و قد تكون عقلية كالمنطق و الرياضيات ، و قد تكون ثابتة بالوحي ، بينما مفهوم العلم اليوم اصبح يحيل على المعرفة التجريبية المعززة بمعايير العقل . و الحقائق الكونية المصرح بها في الكتاب و السنة هي سبق معرفي ثبت بالوحي دون التجربة و العقل و تم توظيفه قرآنيا و على لسان النبي (ص) لتحقيق الهداية و دعم العقيدة الصحيحة و ليس من اجل الاعجاز و التحدي نظرا لهذه الوظيفة الطبيعية الاولى للقرآن ، و ايضا نظرا لانعدام الشرط الاساس في كل اعجاز او تحد ألا و هو وجود الطرف المراد إظهار عجزه و توجيه التحدي له اي المجتمع العلمي اثناء البعثة و نزول الوحي ، و الذي يفترض فيه اكتسابه كل الوسائل والقدرة على المحاكاة و الاتيان بالمثل فيعجز عن ذلك . و لاعتبار آخر هو هذا التقدم العلمي الذي تمكن فعلا من قبول التحدي و اكتشاف ما لا يحصى من الحقائق الكونية التي لم يشر اليها القرآن أصلا مما يعرض مفهوم الاعجاز العلمي للانهيار . بل قد يعتبر تفوقا لعلماء البشرية و مواجهة للإعجاز القرآني و تحديا في الاتجاه المعاكس اذا سرنا مع اصحاب نظرية الاعجاز العلمي فيما تلى من العصور مما يطعن في اساس هذه النظرية و يفرض علينا العودة الى نظرية الاعجاز في المجالات الحقيقية التي قصدها القرآن بإعجازه في مقدمتها الاتيان ب (( المثل في القدرة على الهداية و احياء النفوس بالإيمان و الدلالة على الله )) من مثل قوله تعالى : أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. [الأنعام:122] فهذه هي المعجزة القرآنية الخالدة .. و هذا هو سر معجزة احاديث النبي (ص) المقصودة و هي احياء القلوب بالإيمان و الطاعة و انعاش الحياة الروحية . و هي معجزة جارية مجرى الدهر و لا احد يستطيع ان يجاريها. من السبق المعرفي الى الاعجاز المعرفي و لكن مع هذا، فان هناك شيئا يمكن أن نعتبره إعجازا معرفيا تحديدا بهذا الاسم يقوم حجة قاطعة تزيد من الصفة المعجزة للقرآن و سنة النبي (ص) و على أن الذي جاء به سيد البشر محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام هو كلام من عند الله تعالى و خرق للعادة دون ادنى مراء، و لكن بغير المفهوم المتداول الذي يقاس على الاعجاز اللغوي و البياني أو الاعجاز الرئيسي الذي يتسق مع الوظيفة و الحالة القرآنية المتمثلة في القدرة على هداية و الاحياء الروحي ، ويتمثل ذلك في كون القرآن نطق بكثير من الحقائق العلمية، بالرغم من كون مبلغه وهو الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن قد تخرج من معهد علمي أو تمرس على آليات البحث العلمي المفضية في العادة إلى اكتشاف مثل تلك الحقائق، اذ كيف يمكن لرجل (( أمي )) يعيش في مجتمع صحراوي يتميز بانتشار الأمية و بساطة المعرفة، بل وفي فترة تاريخية كانت المعرفة العلمية جد متخلفة في العالم فيصرح بحقائق مذهلة سبق بها العلم الحديث بقرون عدة، بل كان على البشرية أن تنتظر كل هذه القرون الطويلة، و تنتظر بالتالي تطور إمكانيات البحث العلمي ومؤسساته ومناهجه كي تكتشف في النهاية أن بعض ما انكشف لها قد سبق إليه القرآن الكريم بالرغم من انعدام الشروط الموضوعية اللازمة لمثل تلك الكشوفات، إن هذا حقا هو ما يمكن أن يجسد المعجزة القرآنية و معجزة النبوة من خلال نصوص السنة بكل معاني الإعجاز، بمعنى أن لا أحد يستطيع أن يوجد الشيء مع انعدام أسبابه و شروطه ، و النبي (ص) من خلال القرآن و السنة قد فعل ذلك وهو ما يؤيد أنه مبعوث من عند الله تعالى ، و ان القرآن الذي جاء به هو وحي و معرفة من لدن خالق الكون ، و أن ما أخبر به انما هو إخبار من عنده تعالى من غير أن يكون هناك مصدر آخر لذلك. 1 النصوص المختلفة الواردة في الاعجاز و التحدي هي اربعة حسب المختصين ، و هي : قوله تعالى : (( قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً)) (الاسراء:88 ) قوله تعالى (( وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ )) سورة البقرة الاية 23 قوله تعالى : (( أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ )) سورة هود الاية 13 . قوله تعالى : ((أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين)). سورة الطور اية 34 . 2 من انواع الاعجاز التي قصدها القرآن الكريم ما يتمثل في المجالات التالية : الأول : في حسن النظم، وبديع الرصف، وعجيب السرد، وغرابة الأسلوب وإيجازه وإتقان معانيه. الثاني: في غيوبه من إخباره بما كان ، وبما يكون. الثالث: في احتوائه على الأمر و النهي، والوعد والوعيد، والحكم والمواعظ، والقصص والأمثال. الرابع: في صدقه وسلامته من التبديل والتحريف. الخامس: في أنه لا يخلق على كثرة الرد ، ولا تمله الأسماع، ولا يمحوه الماء ، ولا تفنى عجائبه ، ولا تنتهي غرائبه. السادس : في دوام آياته، وكثرة معجزاته. ذ/ السعيد ريان ابو خير الدين من علماء خريجي دار الحديث الحسنية