عادت فريدة إلى سرب الحمام بعد غياب طويل. لم تكدْ تضعُ قدميها على الأرض، بعد نزولها من سيارة أجرة صفراء، حتى اغرورقَت عيناها بالدموع. خرَّت على ركبتها اليمنى، قبصَتْ قبصة من التراب ثم استنشقت عبيرَها الطيب. انتابها شعور لا يَحُده الوصفُ. عادت فريدة إلى سرب الحمام بعد غياب طويل. لم تكدْ تضعُ قدميها على الأرض، بعد نزولها من سيارة أجرة صفراء، حتى اغرورقَت عيناها بالدموع. خرَّت على ركبتها اليمنى، قبصَتْ قبصة من التراب ثم استنشقت عبيرَها الطيب. انتابها شعور لا يَحُده الوصفُ. عالجت النهوضَ. شعرها الحريري الفاحم يكاد يلامس الترابَ. ألقَته على ظهرها و تابعت سيرَها ببطء. وصلت إلى السياج القصبي فأحست برعب. نظرت إلى السماء: لونها رمادي. استغربت. سرب من الحمام يحلق. تذكرت الأيامَ الخوالي... بدا شيخ في الستين خلفَ السياج القصبي. شعره ثائر، لحيته كثة، شفتاه غليظتان. يمسك قضيبا خشبيا و منجلا يلمع من وهج الشمس. نظرَ كالمترقب. الطريق خالية. شدَّها من شعرها فبدأت تصرخ.. صبية في السادسة. قال لها بنبرة المهدد: - إنْ أخبرت أحدا.. غابَ عن ناظريها. يممتْ شطرَ البيت كسيرةَ الجناح. انتابها شوق قوي لطفولتها الأولى: صديقاتها، أيام الدراسة و سرب الحمام. تلقَّتها أمها سكينة لقاءً حسناً. ضمتها ضما شديدا إلى صدرها. تلألأ الدمع في عينيها كما يتلألأ اللؤلؤ. الحمام يتبع خطاها ويُسْمَعُ له هديل. نظرت إلى السماء و زرقتها. ذهب بها الخيال إلى غرناطة ، حيث تابعتْ دراستَها للموسيقى. تذكرها غرناطة- بمآثرها العربية- بإشراقة الصباح، بالقهوة اللذيذة التي كانت تحتسيها مع الجبن الأبيض وهي تتمايلُ لسماع أغنية أسمهان: "ليالي الأنس.....". تقرأ حتى يغلبها النعاس. ما كانت قادرة على الدفاع عن نفسها. القضاء قاهر. الحمام بعيد. السماء رمادية والصمت يَلف الطريق. اليد الغليظة تتحسس كل جزء من جسمها البض. فكرتْ في أمها سكينة. تتذكر شفتيه والعرقَ المتصبب من جبهته العريضة الخشنة و صوتَه الذي يشبه هديرَ البحر. قالت في نفسها: الوقت كفيل بالنسيان. لكن.. مَن يُسكتُ طنين الذباب في رأسها ؟ باتت تخاف من الحديث مع الرجال. تتحاشى الوقوفَ مع زملائها في المعهد الموسيقي. نظرات الآخرين سكاكين تنغرس في أحشائها. غادرت فريدة بيتَ طفولتها وصباها بسرب الحمام متجهةً إلى غرناطة لاستئناف الدرس. الموسيقى ملاذها الأخير. سلكتْ الطريقَ ذاته. مالت إلى ظل شجرة موز. يَحذو الحمامُ حذوَها. تنتظر وصول سيارة الأجرة الصفراء. رنت ببصرها إلى المقهى، دكان العم أحمد، الجبل العالي الذي يأخذ شكلَ جسد امرأة. يتدفق الماء على السهل الأخضر المنبسط. الفيلات، السياج القصبي والبيوت الفقيرة. بقيتْ تنتظر ... الطريق طويلة.