الخطاب الملكي هو خطاب مفاهيم ولهذا جاء قصيرا وجامعا مانعا، لكن مع ذلك هناك من يستغرب تخصيصه لخطاب ذكرى ثورة الملك والشعب لإفريقيا بالكامل، مثلما استغربوا تخصيص خطاب العرش للقضايا الوطنية، استجابة للأولويات الملحة التي يعرفها المغرب، إذ تضمن تجاوبا واضحا مع مطالب الشارع. هناك اختيار واضح في تقسيم الخطاب الملكي بين عيد العرش وذكرى ثورة الملك والشعب، ففي خطاب العرش أشار جلالة الملك إلى أنه لم يتناول ملفات السياسة الخارجية، وفي مقدمتها قضية الوحدة الترابية للمملكة، وإفريقيا. بينما اليوم خصص الخطاب بكامله لهذه القضية. بما يعني أن هناك تقسيم منهجي واضح. لا يمكن أن تغيب قضية الصحراء عن جلالة الملك. قضية من أجلها يعيش ويحيا ملوك المغرب. ومن أجلها يعيش المغاربة. ولهذا لا غرابة إن غابت عن خطاب العرش، الذي يعتبر خطاب ثورة الملك والشعب استكمال له. أو الجزء الثاني منه. وفي تحليل منطقي وتاريخي لثورة الملك والشعب، أوضح جلالته أن هذه الثورة هي مسلسل متواصل، وما يقوم به جلالة الملك اليوم في إفريقيا هو استمرار لما بدأه جده محمد الخامس، حيث مكنت هذه الثورة من استقلال المغرب كما ساهمت في تحرير إفريقيا، باعتبار المغفور له محمد الخامس رمز من رموز حركات التحرر بالقارة. وبأسلوب منطقي مبني على فلسفة التاريخ أوضح جلالته العلاقة بين استقلال المغرب وتحرير إفريقيا ومسار التنمية، وأوضح تأثير توجه المغرب نحو القارة، ومدى تأثيرها الإيجابي على قضية الوحدة الترابية للمملكة. ليس غريبا على المتتبع الحصيف أن يتم تخصيص خطاب بالكامل للسياسة الخارجية المغربية، باعتبار أن سنة 2016 – 2017 كانت سنة ديبلوماسية بامتياز كما قال جلالة الملك، وذلك بفضل انخراط جلالته في الفعل الديبلوماسي والتحرك الفعال الذي قامت به الدبلوماسية الوطنية. وهو ما تكلل برجوع المغرب إلى الاتحاد الإفريقي، والموافقة المبدئية على انضمامه إلى المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا. لا يريد جلالة الملك من المغاربة أن يقفوا عند الأبعاد التاريخية للقضية، حتى تصبح ملحمة فقط، ولكن ينبغي أن تكون مدرسة تتواصل فصولها لهذا ركز جلالة الملك على أبعادها الجهوية والقارية. وقدم دروسا للذين يناوئون قضيتنا الوطنية، باعتبار أن ثورة المغرب هي التي ألهمت الثورات في إفريقيا بل كانت رافعة للثورة الجزائرية. لا تتوقف ثورة الملك والشعب عند حدودها التاريخية والرمزية، ولكنها بامتدادها في الزمن، هي تعميق للوعي بالمصير المشترك بين شعوب القارة، كما تؤكد على ضرورة بناء إفريقيا مستقلة، يحترم الجميع سيادة دولها. هذه هي القصة الحقيقية للتوجه الملكي نحو إفريقيا. ليس المغرب غريبا عن القارة ولا طارئا عليها، حيث استعرض جلالة الملك عل سبيل الذكر، بعض المواقف المشهودة للمغرب تجاه قارته : ومن بينها المشاركة في أول عملية لحفظ السلام بالكونغو سنة 1960، واحتضان مدينة طنجة لأول اجتماع للجنة تنمية إفريقيا، وإحداث وزارة مكلفة بالشؤون الإفريقية في حكومة 1961. وهي قرارات دالة بالحسم أن المغرب كان مهتما كثيرا بإفريقيا. مع العلم أن اجتماع الدارالبيضاء هو الذي قرر إنشاء منظمة الوحدة الإفريقية التي خرج منها المغرب مضطرا سنة 1984. وركز جلالة الملك على قضية مركزية وهي أن عودة المغرب لإفريقيا لم تأت بشكل عفوي ولكنها وفاء للتاريخ المشترك، وإيمان صادق بوحدة المصير. وهذا ما يتجسد في السياسة الملكية التضامنية تجاه دول القارة. هذا العمل المستمر على امتداد 17 سنة أوصل إلى تعزيز مكانة المغرب بالقارة اقتصاديا وسياسيا. التحرك الملكي الإفريقي أنتج العديد من الاتفاقيات، التي عززت الشراكات الاقتصادية بين المغرب ودول القارة، وانخراط القطاعين العام والخاص في الاستثمار على أساس رابح – رابح. حيث تقوم الشركات المغربية بالاعتماد على مكاتب الدراسات واليد العاملة المحلية، وهو ما يساهم في النهوض بالتنمية المحلية بالدول المعنية. كما مكنت السياسة الإفريقية لجلالة الملك من عودة المغرب إلى الاتحاد الإفريقي، ومن الحصول على الموافقة المبدئية للانضمام إلى المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا. أهم رسالة في الخطاب الملكي هي هذا التوضيح المتعلق بالعلاقة بين التوجه المغربي نحو إفريقيا، وبين ما يجري في الداخل، حيث أكد جلالته أن هذا التوجه لن يغير من مواقف المغرب، ولن يكون على حساب الأسبقيات الوطنية. الخطاب الملكي أجاب عن لبس يطرحه المغرضون. يقولون كيف يصرف المغرب الأموال على إفريقيا، ومن الأولى صرف هذه الأموال على المغاربة. جلالة الملك كان واضحا. اعتبر من يقول ذلك لا يريد مصلحة الوطن، لأن الانفتاح على إفريقيا والاستثمارات التي تقوم بها الشركات المغربية هناك، تشكل قيمة مضافة للاقتصاد الوطني، وتساهم في تطور هذه المقاولات، وزيادة أرباحها. وهو ما سيخلق المزيد من فرص الشغل للمغاربة بهذه الدول، وبتوسيع مجال نشاطها في المغرب. كما كان له أثر إيجابي ومباشر على قضية الوحدة الترابية للمملكة، سواء من على مستوى مواقف الدول أو على مستوى قرارات الاتحاد الإفريقي. وهو ما عزز الدينامية التي يعرفها هذا الملف على مستوى الأممالمتحدة.