توصلنا من الأستاذ لحسن حداد، وزير السياحة السابق والنائب البرلماني عن حزب الاستقلال، بمقال قيّم أورد فيه مجموعة من الملاحظات حول عملية تحرير الدرهم التي استأثرت باهتمام المختصين والمواطنين المغاربة في الآونة الأخيرة، وهي ملاحظات، يقول الأستاذ بأنها تتعلق بالشق الاقتصادي الصرف للعملية دون الخوض في الجدال في أبعاده السياسية والإيديولوجية. وبالنظر إلى الأفكار القيمة التي تضمنها مقال الأستاذ حداد، المعروف بكتاباته وتحليلاته الرصينة في المجال الاقتصادي، ارتأينا في موقع تيليكسبريس نشره كاملا قصد تعميم الفائدة. هذه بعض ملاحظاتي حول العملية في شقها الاقتصادي الصرف دون الخوض في الجدال في أبعاده السياسية والإيديولوجية. هناك نقاش دائر حول التحرير المتدرج للدرهم وما هي عواقبه على الاقتصاد الوطني وعلى القدرة الشرائية للمواطنين. الكثير يتذكر انهيار العملة التايلاندية في سنة 1997 وتأثيرها على اقتصاديات دول جنوب شرق آسيا أو المشاكل التي عرفها تحرير البيسو المكسيكي والعملة الأرجنتينية. وهذه سناريوهات يجب استحضارها والعمل على تجنبها. ما يجب أن يعرفه الجميع هو أن هذا التحرير مطروح منذ مدة كإحدى وسائل دعم انفتاح الاقتصاد وجلب الرساميل ودعم المبادلات التجارية. بل إن تدبيرا محكما للعملية سيعطي نفحة جديدة للاقتصاد ويجعله أكثر تنافسية. ما يقترحه بنك المغرب هو تحرير تدريجي يأخذ سنوات للتحكم في العملية وضبط مخاطرها. التحرير التدريجي سيأخذ وقتا ويعطي للبنك المركزي إمكانية التدخل لتقويم أي خلل طارئ نتيجة صدمات اقتصادية خارجية أو داخلية. مع العلم أن لبنك المغرب إمكانية التدخل إما عبر طرح العملة الخارجية للبيع أو شرائها في علاقتها مع الدرهم لضبط التوازن والحيلولة دون ارتفاع أو انخفاض مهول في سعر الدرهم. ولكن هذا لا يحصل إلا إذا توفر احتياطي من العملة يفوق الستة أشهر يعطي هامشا مهما للبنك المركزي للتدخل بأريحية وهو ما يحصل الآن خصوصا في وقت نتجه فيه إلى وجود احتياطي قد يصل الى ثمانية أشهر (جراء انتعاش السياحة وتحويلات المهاجرين وارتفاع الصادرات خصوصا في قطاع السيارات والطيران مع استقرار في صادرات الفوسفاط وانتعاش في بعض مشتقاته بعد صعوبات سنة 2015 ). التحرير ينجح عادة حين تكون الوضعية الماكرواقتصادية سليمة. والحال أن المغرب حسن من توازناته الماكرواقتصادية منذ سنة 2012 والتي كان المغرب قد اقترب فيها من وضعية متأزمة على مستوى عجز الميزانية وعجز ميزان الأداءات وارتفاع حجم الدعم عبر صندوق المقاصة وانخفاض احتياطي العملة. كل هذه المؤشرات تحسنت الآن مما يجعل مهمة البنك المركزي أكثر سهولة في التدخل لتدبير تحرير الدرهم. الرفع من الصادرات ودعم السياحة والحفاظ على الخط الإئتماني مع صندوق النقد الدولي (كتأمين ضد الصدمات الخارجية) والنقص التدريجي لحجم المديونية والحفاظ على التضخم في مستوى مقبول (أي دون 2 %) وخفض عجز الميزانية إلى 3,5 % و استمرار إصلاح المقاصة عبر التحرير النهائي للدعم المعمم والمرور إلى نظام يركز على الفئات المحتاجة. كل هذا من شأنه أن يعطي مناخا يطمئن المستثمرين و يجعل التدخل المحكم لمراقبة قيمة العملة ممكنا وسهلا. التايلاند حررت عملتها من أجل دعم صادراتها وتطمين المستثمرين الأجانب خصوصا في ظل التصاعد الصاروخي الذي عرفه الدولار مما جعلها تتخذ القرار بتحرير البهت من تبعيته للدولار؛ لكن الارتفاع المهول للمديونية التايلاندية (والذي وصل الى مستويات عليا قبل عملية التحرير)، ووجود رساميل أجنبية مضارباتية مهمة، ولجوء البنوك الى القروض الاستهلاكية والسهلة وتدهور الصادرات (بداية صعود الصين كمنافس في أواسط التسعينات) جعل العملة التايلاندية عرضة لهجوم مضارباتي منظم من طرف أصحاب الرساميل الأجنبية الذين طرحوا أصولهم التايلاندية للبيع ولكنهم حافظوا على الأصول الأجنبية. خرجت الرساميل، وتدهورت القروض، وتدهور سعر البهت الى ما فوق مائة في المائة، وانتقلت العدوى الى اندونيسيا وماليزيا وهونغ كونغ والفلبين وغيرها مما جعل صندوق النقد الدولي يضخ 40 مليار دولار لحفظ التوازنات ومنع انتقال العدوى خارج جنوب شرق آسيا. نفس الشيء حصل في المكسيك في أواسط التسعينات حين تعرضت لهجوم مضارباتي من طرف أصحاب الرساميل الأجنبية مما جل البيسو ينخفض الى درجات مهولة والتضخم يتصاعد بشكل صاروخي وعمت الفوضى المضارباتية وهم ما أثر على القدرة الشرائية للمكسيكيين. في الأرجنتين، أدى تصاعد قيمة البيسو الصاروخية في عقد التسعينات (في علاقته مع الدولار العملة المرجعية حسب قانون التحرير ل 1992) الى الحديث في الأوساط الحكومية سنة 2001 عن خفض من قيمة البيسو. هرع الأرجنتينيون إلى البنوك لسحب ودائعهم فتدخلت الحكومة لإقفال البنوك في وجههم مخافة تدهور النظام البنكي وارتفاع التضخم وحدوث أزمة اقتصادية. ولكن ما تخوفت منه الحكومة هو ما حدث فعلا: أحداث شغب متواصلة، قرار صندوق النقد سحب دعمه للأرجنتين، استحالة الولوج إلى سوق الرسملة الدولية، سقوط الحكومة، تراجع الاقتصاد الأرجنتيني ب 11 % سنة 2002 وحدها، أزمة اجتماعية خانقة، تدهور في مستوى المعيشة، وبرنامج تقويم هيكلي لا زالت آثاره لم يستيقظ منها الأرجنتينيون بعد. هذه دروس الماضي التي يجب أن نتعلم منها في المغرب. أظن أن الخطر الكبير الذي يجب الاحتياط منه هو دخول الرساميل المضارباتية: speculative capitals. وهي الرساميل التي تتوخى الربح السريع عبر رساميل المخاطرة والاستثمار السريع في البورصة وأسواق العملات؛ على البنك المركزي أن يراقب هذه الرساميل وتحركاتها وينبه حين تصل تدخلاتها إلى منطقة الخطر. يجب على البورصة كذلك أن تحصن نفسها ضد العمليات المضارباتية بوضع سقف للمشتريات والمبيعات لتتحكم في توازنات سوق المال. يجب الاستمرار في دعم مناعة القطاع البنكي المغربي وجعله في منأى عن القروض غير السليمة ودخوله في التعامل بمنتوجات مالية ورقية لا تأثير لها على الدورة الاقتصادية. على الحكومة أن تستثمر في دعم الصادرات الصناعية والمعدنية والفلاحية ودعم السياحة وتحويلات مغاربة العالم في المغرب لكي نصل إلى احتياطي مهم من العملة الصعبة يقارب الإثني عشر شهرا لنعطي للبنك المركزي القدرة على التدخل لضبط التوازنات. خفض المديونية إلى ما دون الستين في المائة على المدى المتوسط ومادون الخمسين على المستوى البعيد والحفاظ على تضخم لا يتعدي 2 إلى 3 في المائة وعجز ميزانياتي قريب من 3 % سيطمئن المستثمرين وأصحاب الرساميل ويعطي للمغرب قدرة أكبر على جلب التمويلات بأقل التكاليف. تحرير العملة ضروري وسيكون له وقع إيجابي على الاقتصاد الوطني. والمقاربة التدريجية وأخذ الاحتياطات اللازمة مع الاستفادة من دروس الماضي كلها من شأنها أن تعطينا مناعة أكثر في إنجاح هذه العملية.