التراجع عن المكتسبات في الوقت الذي تتجه فيه الأنظار إلى المحن الاجتماعية التي تعيشها الفئات الاجتماعية الهشة في الأحياء الهامشية للمدن وفي مناطق قروية نائية وخصوصا تلك التي توجد وسط الجبال والهضاب، وفي الوقت الذي تشكل فيه قضايا التغطية الصحية مركز الاهتمام نظرا للعجز الكبير الذي يعرفه قطاع الصحة، وفي الوقت الذي تقوم فيه هيئات المجتمع المدني الفاعلة في مجال الاقتصاد الاجتماعي وخصوصا منها التعاضديات بأدوار نضالية من اجل تمكين الفئات المتعاضدة من خدمات صحية تضامنية، تطل علينا كالشبح المخيف هياكل الإنتاج التشريعي وخصوصا مجلس المستشارين لتوجه ضربة قاسية إلى مكاسب الموظفين والعمال والذين حصلوا عليها بتضامنهم منذ عشرات السنين، فالتعاضديات التي أسست بمجهودها الصندوق الوطني لمنظمات الاحتياط الاجتماعي تمكنت من نسج قاعدة تعاضدية لخدمة الموظفين ومستخدمي المؤسسات العمومية الذين تتشكل غالبيتهم من ذوي الدخول المحدودة والذين لا يمكنهم الحصول على الخدمات الطبية ذات التكلفة العالية إلا عبر تعاضديتهم. وبالرغم من كون القانون رقم 00-65 بمثابة مدونة للتغطية الصحية الأساسية قد نظم الإطار القانوني، إلا انه حرم أعضاء التعاضديات وهيئات التأمين الصحي من الولوج إلى العلاجات عبر المصحات التعاضدية وكذلك الحصول على الأدوية بأسعار في مستوى القدرة الشرائية للمتعاضدين وهكذا أغلقت المصحة والصيدلية اللتان كانتا تابعتان للصندوق الوطني لمنظمات الاحتياط الاجتماعي، وطلب من الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي إغلاق مصحاته، وتعد هذه التراجعات ذات حمولة خطيرة على مستقبل التوازنات المالية للتعاضديات ومؤسسات التأمين الاجتماعي وهكذا حرمت هذه المؤسسات من شراء الأدوية عبر صفقات عمومية وبأسعار اقل في بعض الأحيان ب 200% من أسعار البيع العمومية.
وامام هذه الوضعية الخطيرة لم تجد الحكومة من حلول سوى الهجوم على مكتسبات التعاضديات وخصوصا التعاضدية العامة وذلك بهدف نسف المكتسبات في مجال الولوج إلى الخدمات الصحية عبر المراكز المنتشرة عبر العديد مناطق المغرب، وقد اتجهت التعاضدية العامة في إطار سياسة القرب وتوسيع الولوج إلى العلاج وتجويده تماشيا مع التوجهات الملكية السامية في عمقها ومنهجها وخصوصا تلك التي تضمنها خطاب العرش الأخير والذي يمكن اعتباره بحق نموذجا للتشريح الدقيق للهشاشة الاجتماعية بالمغرب وضرورة التعاطي معها من خلال مشاريع تصل أثارها إلى العمق المغربي، وبدل أن تعمل الحكومة على تعميق الفكر التعاضدي وتقوية آلياته ومراكزه العلاجية، تقدم مشروعا يفتقد إلى الحس الاجتماعي ويقزم العمل التعاضدي بل وتمريره عبر "أغلبية" كاريكاتورية في مجلس المستشارية، فلا اللجنة المختصة داخل هذا المجلس ولا الجلسة العامة سجلتا حضورا للمستشارين وخصوصا ممثلي النقابات فتم التصويت بحضور ضعيف جدا على مشروع القانون رقم 12-109 وتقدم هذه الحالة صورة مزرية عن الإنتاج التشريعي الذي تعبث به أيادي اللوبيات التي تعمل جاهدة لضرب الاقتصاد الاجتماعي التضامني وتريد أن تزج بأعداد كبيرة من المتعاضدين في مستنقع الأسعار النارية للكثير من مؤسسات القطاع الخاص، كما يسعى مشروع القانون إلى تغييب المنتخبين وجعلهم واجهة للتفرج على ضياع المكتسبات في الوقت الذي لا تتم إلا محاسبة المنتخب وليس الإداري أو التقني ، ولقد مكنتنا الأسابيع الأخيرة من مدى ملاحظة تماسك الأغلبية والمعارضة داخل مجلس البرلمان خلال الدفاع على الأدوار المركزية للمنتخبين على صعيد الجهات والجماعات الترابية في حين تمضي قلة من المستشارين إلى عكس ما دافعت ضدة خلال التصويت على القوانين التنظيمية الخاصة بالجهات والجماعات.
إن المسؤولية التاريخية الملقاة على عاتق البرلمان في مجال مدونة التعاضد واضحة ولا لبس فيها، إن أي إضعاف للجسم التعاضدي ستكون له آثار وخيمة على مكتسبات الموظفين الحاليين والمتقاعدين وستجعلهم أكثر عرضة للهشاشة الاجتماعية، ويسجل للجسم الصحافي موقفه الموضوعي والمسؤول من مشروع القانون المذكور حيث تم تنوير القراء بمن يحتويه من مخاطر على الحماية الصحية.
ولقد عبر أعضاء المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي على ضرورة الحفاظ بل وتعميق مكتسبات المنظومة التعاضدية ببلادنا، لذلك أصبح من الضروري ان يتحمل أعضاء مجلس النواب مسؤولياتهم السياسية لإعادة الأمور إلى نصابها والانكباب بالجدية الكبيرة على مشروع القانون المذكور حتى لا يتسبب التسرع في تعميق جراح كثير من الأسر ذات الدخل المحدود، يجب إقفال الأبواب التي يمكن أن تتسرب من خلال أعضاء اللوبيات التي تهدد مكاسب المتعاضدين وتستهدف التوازنات المالية لتعاضديتهم.