أسالت قضية الوفاة الغامضة لألبيرتو نيسمان، رئيس هيئة التحقيق والادعاء العام في قضية تفجير الجمعية اليهودية الأرجنتينية (أميا)، الذي عثر عليه ميتا في بيته وفي جبينه طلقة رصاصة مسدس، الكثيرا من المداد وخلقت جدلا واسعا في الأوساط السياسية والإعلامية، وفتحت باب التكهنات على مصراعيه خاصة وأن الأرجنتين مقبلة هذه السنة على انتخابات رئاسية قد ترخي قضية نيسمان بظلالها عليها. وعلى الرغم من مرور أزيد من ثلاثة أسابيع على وقوعها لا تزال وفاة القاضي نيسمان لغزا محيرا بالنظر إلى تشابك خيوط القضية، مما جعل المراقبين يسهبون في طرح أكثر من احتمال، فمن قائل بفرضية الانتحار إلى من يتهم جهاز الاستخبارات الأرجنتيني نفسه، مرورا بمن يعتقد أن وفاة نيسمان تحمل بصمة أياد أجنبية كإيران وجهاز المخابرات الإسرائيلية (موساد) ونظيره الأميركي (سي أي إس) أو حتى المافيا الصينية، غير أن الحقيقة تظل تائهة في سماء الفرضيات إلى حين الاعلان عن نتائج التحقيق الذي تباشره المدعية العامة فيفيانا فين.
أما المعارضة الأرجنتينية فتقول إن الحكومة أزالت قاضيا "مزعجا" كان ممسكا بملف معقد ومصمم على عرضه على البرلمان، لكن الحكومة، التي دعمت، في بداية الأمر، فرضية الانتحار، فتشير بأصابع الاتهام إلى عملاء في أجهزة الاستخبارات الأرجنتينية بأنهم يقفون وراء عملية "قتل" نيسمان وذلك في "خطوة انتقامية" بعد أن تم استبعادهم أواخر العام الماضي من مناصب حساسة.
وفي أعقاب هذا الحادث أعلنت الرئيسة الأرجنتينية، كريستينا فيرنانديث دي كيرشنر، عن قرارها حل جهاز الاستخبارات "إس إي" وتعويضه بوكالة فيدرالية للمخابرات، بعد أن يصادق على ذلك البرلمان.
وفي هذا السياق، وجهت المدعية العامة فيفيانا فين، المكلفة بفك لغز وفاة القاضي نيسمان (51 عاما)، الدعوة إلى المدير السابق لجهاز الاستخبارات، أنتونيو أوراثيو ستيليس، المعروف باسم خايمي ستيسو، للحضور إلى مكتبها للاستماع إلى شهادته، على اعتبار أنه آخر شخص تحدث هاتفيا إلى نيسمان حوالي 12 دقيقة قبل الإعلان عن وفاته.
وقد حصل خايمي ستيسو، الذي يوصف بالرجل القوي الذي قضى أزيد من 41 سنة في دواليب الاستخبارات الأرجنتينية، على الإذن برفع السرية عن الملفات التي كان يديرها وبالتالي يمكنه الإجابة على أسئلة المدعية العامة.
ومما يزيد من تشابك خيوط قضية نيسمان هو أن هذا الأخير عثر عليه ميتا، يوم 18 يناير الماضي، ساعات فقط قبل موعد عرضه ملفا على البرلمان يتهم فيه الرئيسة الأرجنتينية، ووزير العلاقات الخارجية، هيكتور تيميرمان، ب"الموافقة" على "عدم تحميل إيران مسؤولية التفجير الذي استهدف سنة 1994 مقر الجمعية اليهودية الأرجنتينية وخلف 85 قتيلا وحوالي 300 جريح".
وقبل وفاة نيسمان تداولت وسائل الإعلام المحلية أخبارا تفيد بأنه أسر للنائبة البرلمانية المعارضة، باتريسيا بولريتش، عن تعرضه للتهديد، وأنه قام بنقل مخاوفه للنيابة العامة من أجل تعزيز حراسته، لا سيما بعد أن أعلن أنه يتوفر على تسجيلات لمحادثات هاتفية بين مسؤولين إيرانيين وأرجنتينيين، تفيد بأن بوينوس أيريس وطهران توصلتا إلى اتفاق يقضي بتستر الأرجنتين على المشتبه بهم في الهجوم على مقر الجمعية اليهودية الأرجنتينية.
وفي غضون ذلك، أعلنت مجموعة من القضاة عن عزمهم، تنظيم "مسيرة صامتة"، يوم 18 من فبراير الجاري بالعاصمة بوينوس أيريس، تزامنا مع مرور شهر على وفاة نيسمان للمطالبة باحترام "استقلالية" السلطة القضائية، مع التأكيد على أن هذه المسيرة "ليست ضد أي أحد"، والتحذير، في الوقت ذاته، من أن قضية وفاة نيسمان "هي الأولى من نوعها التي تحدث بهذا الشكل لكنها قد لا تكون الأخيرة".
وفي هذا الصدد، أكد المدعي، غييرمو ماريخوان، في ندوة صحافية، أن هذه المسيرة ستكون في صمت وهدوء وسترفع فيها الأعلام الأرجنتينية فقط، وقال "إننا نريد أن يكون الصمت بمثابة السلام الذي نحتاجه ويحتاجه المحققون للكشف عن الحقيقة وتسليط الضوء على الحادث، وهو أيضا صمت يعكس الاعتراف بالمجهود الذي بذله الراحل ويكشف مدى الألم الذي نحس به جميعنا".
من جهته، حذر ممثل نقابة العاملين في سلك القضاء، خوليو بيوماتو، من أن وفاة نيسمان "كان لها ما قبلها وسيكون لها ما بعدها"، مضيفا أن "مسيرة الصمت هي صرخة مدوية من أجل التعبير عن السخط".
ويجمع المتتبعون لأطوار هذه القضية، التي تشغل بال الأرجنتينيين، على أن مثول نيسمان أمام البرلمان كان سيشكل لحظة حاسمة في مسار طويل من التحقيق في حادث "أميا"، لكن وفاته الغامضة هي التي تحولت إلى سؤال عريض ومحير قد تصعب الاجابة عنه، على الأقل، في الأمد القريب.