أثيرت في الشهور الأخيرة نقاشات حادة حول موقع اللغة الأمازيغية إلى جانب اللغة العربية في المنظومة التعليمية وفي مختلف مؤسسات الدولة المغربية. وقد انصبت أغلب هذه النقاشات –للأسف- في اتجاه التهويل من مأسسة هذه اللغة التي ظلت على هامش مؤسسات الدولة لما ينيف عن أكثر من ستين سنة؛ وكانت الخلفية الفكرية المتحكمة في هذا النقاش تنهل دائماً من معين إيديولوجية إقصائية ترفض التعدد اللغوي والثقافي لحساب صفاء هوية عربية خالصة وضامنة للوحدة العربية ولبيضة الإسلام. بل ولم تتورع بعض الأقلام التي انخرطت في هذا النقاش عن اتهام النشطاء الأمازيغ بالصهينة والتخوين والعنصرية وبلقنة البلاد وخدمة أجندات استعمارية إلخ. وذهب البعض الآخر منهم إلى استعداء السلطة ضد هؤلاء النشطاء وضد الحركة الأمازيغية عموماً بل وضد المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية الذي هو جزء من الدولة. ونظراً إلى أن هذه السلطة لم تقم باللازم أو على الأقل لم تقم برد فعل قوي وعنيف بالشكل الذي يريده به الحاقدون على اللغة الأمازيغية وثقافتها، فإن الاستراتيجية التالية لم تكن لتتوقف عند حدود هذه الاتهامات اللفظية الباطلة بل تجاوزت ذلك إلى خلق أحداث خيالية وكاذبة معضدة إعلامياً بصور فظيعة تظهر أمازيغ مفترضين وهم بصدد تقطيع جثة أحد الطلبة الذي قيل عنه أنه ينتمي إلى إحدى التيارات اليسارية المناهضة للحقوق اللغوية والثقافية الأمازيغية؛ وقد تناقل الإعلام الإلكتروني والورقي هذه الصور بشكل فاحش معضدة بأخبار تفيد أن الجريمة قد وقعت بإحدى الجامعات المغربية. ولم يهدأ روع الناس إلا عندما نشرت وزارة الداخلية بياناً تبين فيه أن الأمر كلّه "فرية" اختلقتها جهات لها المصلحة الإيديولوجية في تشويه سُمعة من يطالبون بالتسامح والتعدد وقيم الاختلاف.
ولم يمر وقت طويل حتى طالعنا الإعلام مرة أخرى بخبر مفاده أن ناشطين أمازيغ قد هددوا أحد شيوخ السلفية بالقتل عبر مكالمة هاتفية مجهولة المصدر. وقد كان في إمكان الشخص المذكور التحري أو على الأقل الحذر من اتهام الناس، مصداقاً لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [الحجرات: 6]}؛ وللأسف فإن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد بل إن أصحاب الشيخ "المُهَدّد" قد رفعوا هم أيضاً أصواتهم عاليةً يتهمون وينددون بل ويصفون الأمازيغ كلهم بأشنع الأوصاف والنعوت؛ ولقد كان حرياً بهم وصاحبُهم واقعٌ تحت صدمة المكالمة المجهولة المصدر أن يذكروه بالآية القرآنية الكريمة كي لا يصيبوا قوماً هم إخوة لهم في المواطنة ( إن كانوا يومنون فعلاً بهذه المواطنة) ... أن يصيبوهم بجهالة القذف وعدم التحري والتعرف والتأكد من الخبر.
وإذا كنا نعزو ردود الفعل العنيفة والسريعة هذه إلى طبيعة البنية النفسية لهؤلاء وإلى مواقفهم السلبية المسبقة من الأمازيغ ومن لسانهم وثقافتهم، فإن الغريب في الأمر هو أنه كلما خطت الأمازيغيةُ خطوة إلى الأمام ولو كانت متعثرة في طريق مأسستها إلا وتنادى المناوئون وتشكلت حملات الهجوم. هذا ما وقع عندما تم الاعتراف بأمازيغية المغرب سنة 2001، وهذا ما وقع عندما تمت المصادقة على حرف تيفيناغ سنة 2003، وهذا ما وقع أيضاً عندما قررت وزارة التربية الوطنية إدراج هذه اللغة في المنظومة التربوية، بل وهذا ما وقع عندما صوَّت المغاربة على ترسيمها سنة 2011، وهو ما يقع الآن ونحن بصدد التحضير للقانونين التنظيميين المتعلقين بتفعيل الترسيم وبإنشاء المجلس الأعلى للغات والثقافة المغربية. إنها دائماً نفس الاستراتيجية ونفس الاتهامات ونفس المواقف مع زيادة أكبر في حِدة الهجوم، ومع تنويع "أرقى" في وسائل التهجم. إذ لم يقتصر الأمر على الكتابات المغرضة وعلى اختلاق الأخبار الزائفة والتهويل منها واتهام الأمازيغ بالعنف وبالروح العدائية للإسلام والتخويف من حرب أهلية قادمة كالتي وقعت بين الهوتو والتوتسي إلخ بل تجاوز ذلك إلى أن بعضهم اتخذ بعض وسائل الإعلام الأجنبية قنوات ليهيء التربة لاستنبات مواقف سلبية تتجاوز الوطن ضد المطالب الأمازيغية؛ إن هذا الرجل لم يُنسِّب أقواله بل عممها على كل الحركات الأمازيغية؛ ولو كان هذا الشخص من "يا أيها الناس" لما توقفنا عند كلامه، ولكن بما أن كلمته هي المسموعة داخل الأوساط الدينية في قطر والسعودية والإمارات ومصر وغيرها من الدول العربية، فإن هذا يشكل، في نظرنا، دعوة إلى معاداة هؤلاء الأمازيغ؛ إنني أتساءل: ما هو رد فعل القطري والسعودي والإماراتي والمصري مثلاً عندما سيسمع من مغربي محترم ومعروف لديهم باشتغاله على مقاصد الشريعة الإسلامية يؤكد أن الحركة الثقافية الأمازيغية قد جاءت "مصحوبة بنزعة عدائية شديدة ضد العروبة والإسلام"؛ وأن عملها "عمل هدام" وأنها "ضد الدين" و"ضد الوحدة الوطنية" و "ضد كُلْشي" وأنها "فئة حاقدة وهدامة". كيف يمكن لهذه الأوساط الدينية وللبسطاء من الناس أن يتلقوا هذه الرسالة العنيفة وهم لا يعرفون شيئاً كثيراً عن الرهانات السياسية والثقافية المغربية الداخلية؛ بل ولا يعرفون شيئاً كثيراً عن هذه الحركات وتاريخها وتنوعها وأشكال صراعاتها مع خصومها الذين يرفضون التعدد وقيم التسامح والاختلاف إلخ؟. وهل لي أن أذكر بما تداولته منذ سنة بعض وسائل الإعلام من أخبار مفادها أن أميراً سعودياً وقف ضد حرف تيفيناغ وضد إدراجه في الونداوز 8، وأنه عمل المستحيل من أجل ذلك. ألا يمكن أن يكون هذا إحدى ثمرات الشوك التي زرعها هناك إخواننا المغاربة باسم الدين تارة وباسم العروبة تارة ثانية وباسم الوحدة الوطنية والعربية تارة ثالثة إلخ؟ ألا يشكل هذا إشارة ومقدمة لما سيكون عليه مواقف العرب في الشرق من الأمازيغ؟ بل ألا يمكن اعتبار هذا نوعاً من تسويغ للتدخل في شؤوننا الداخلية باسم قوميات عبر-دولية ووحدة عبر-إسلامية؟
إننا نعلم أن الهدف من هذه الحملات واحد. إذ كلما اقترب موعد المصالحة الحقيقية مع اللغة والثقافة الأمازيغية كلما انبرى المناوئون يدعون بالويل والثبور وعظائم الأمور كي يثيروا البلبلة ويضعفوا الخصم الأمازيغي ويوقفوا مشروع المأسسة الحقيقية للأمازيغية إلى إعلان مؤجل آخر.
ولكن تأكدوا أننا الأمازيغ سنظل ندافع دائماً عن قيم التعدد والتسامح والاختلاف.