بعد تعرضنا في حلقات سابقة لمؤسسة الحسبة في النظام الاسلامي التي تعتبر بمثابة مؤسسة الافتحاص الداخلي والخارجي في النظام الحديث للمراقبة وكذا تقديم معنى المال العام في اللغة والاصطلاح سنتعرض بحول الله في هذه الورقة لمعنى المصلحة المعتبرة في الاسلام لربطها لاحقا بتدبير المال العام … أ) المصلحة لغة المصلحة في اللغة هي المنفعة وزنا ومعنى من صلح يصلح بالفتح ويصلح ضما صلوحا صلاحا وصلوحا وهو صالح وصليح جمع صلحاء وصلوح ورجل صالح في نفسه من قوم صلحاء ومصلح في أعماله وأموره والإصلاح نقيض الفساد وأصلح الشيء بعد فساده أقامه[1] وفي التهذيب تقول" أصلحت إلى الدابة إذا أحسنت إليها " والمصلحة الصلاح والمصلحة واحدة المصالح والاستصلاح نقيض الاستفساد . انشد أبو زيد فكيف بإطراقي إذا شتمتني وما بعد شتم الوالدين صلوح ب)أما في التشريع فلقد لخصها شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله في مغزى رسالة الإسلام "والرسالة ضرورية في إصلاح العبد في معاشه ومعاده فكما أنه لا صلاح له في آخرته إلا بإتباع الرسالة، فكذلك لا صلاح له في معاشه ودنياه إلا بإتباع الرسالة، فإن الإنسان مضطر إلى الشرع فإنه بين حركتين: حركة يجلب بها ما ينفعه وحركة يدفع بها ما يضره والشرع هو النور الذي يبين ما ينفعه وما يضرهو الشرع نور الله في أرضه وعدله بين عباده وحصنه الذي من دخله كان آمناً. [2] وقد قسمها العلماء إلى أقسام عدة، وفقاً لاعتبارات وحيثيات مختلفة، فقسموها باعتبار الفرد والجماعة إلى قسمين: مصلحة عامة، ومصلحة خاصة، وبينوا أنَّه في حال تعارض المصلحة العامة مع الخاصة فإنها تقدم المصلحة العامة، وقعَّدوا لذلك قاعدة هي" المصلحة العامة تقدم على المصلحة الخاصة ". ويمثلون للمصلحة العامة بالمقاصد والكليات الخمس وهي: حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال. فهذه كليات لا تقوم الحياة إلا بها، ولا تنضبط أمور المجتمعات إلا بحفظها، ولا يمكن ذلك إلا بما أحكم الله عز وجل من شرعه العظيم، وما قرره رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.وبذلك استخرجوا مراتب من المصالح بحسب اعتبارها شرعية نصية أو اعتبارية اجتهادية إلى مصلحة معتبرة ومصلحة ملغاة ومصالح مرسلة مصلحة معتبرة شرعاً، ويقصدون بالمصلحة المعتبرة شرعاً: المصلحة التي جاء باعتبارها نص من الكتاب أو من سنة، أو من إجماع.. وهذه المصلحة المعتبرة تشمل كل ما يعود على الأمة كلها، أو على كل فرد بحد بذاته، بصلاح الدين والنفوس والعقول والأعراض والأموال، ولذلك فقد شرعت الأحكام جزئياتها وكلياتها للمحافظة على هذه المصالح وتكثيرها، وإزالة كل ما يؤدي إلى نقصها..فلقد شرع الجهاد، وقتال المرتدين، وإقامة الحدود، والدعوة إلى التفكر في آلاء الله ومخلوقاته، وبديع مصنوعاته، وحرم الخمور والمخدرات، وجميع المسكرات، وغير ذلك من الأمور، كلها حفاظاً على الكليات والمصالح الخمس المعروفة . مصلحة ملغاة شرعاً، أو غير المعتبرة – فهي التي ألغاها الشارع من الاعتبار والرعاية؛ كالابتداع في دين الله ما لم يأذن به، لان الشرع قد اعتبر عبادة الله وحده لا شريك له على وفق ما أراده وشرعه، وأبطل كل فعل يخالف ما شرعه الله؛ فعن عائشة – رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من احدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد "[3] وفي رواية : " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد[4] ". قال ابن رجب – رحمه الله- عن الحديث : وهذا الحديث أصل من أصول الإسلام، وهو كالميزان للأعمال في ظاهرها؛ كما أن حديث " إنما الأعمال بالنيات" ميزان الأعمال في باطنها[5]. انظر جامع العلوم وقال عنه ابن حجر- رحمه الله-: وهذا الحديث معدود من أصول الإسلام، وقاعدة من قواعده. فإن معناه: من اخترع في الدين مالا يشهد له أصل من أصوله فلا تلتفت إليه. وقال النووي – رحمه الله-: هذا الحديث مما ينبغي أن يعتني بحفظه واستعماله في إبطال المنكرات، واتساعه للاستدلال به كذلك. . ذلك أنَّ العلماء قد ذكروا أن هناك شرطين أساسيين لقبول العمل، وقد جمعها الشيخ حافظ حكمي- رحمه الله- في سلمه فقال: شرط قبول السعي أن يجتمعا فيه إصابة وإخلاص معا لله رب العرش لا سواه موافق الشرع الذي ارتضاه وكل ما خالف للوحيين فإنه رد بغير مين قال العز بن عبد السلام في كتابه القيم "قواعد الأحكام ": "المصالح ضربان: أحدهما حقيقي وهو الأفراح واللذات. والثاني مجازي، وهو أسبابها"، وقريب من هذا قول ابن القيم في "مفتاح دار السعادة ": "المصلحة: هي اللذة والنعيم وما يفضي إليه. والمفسدة: هي العذاب والألم وما يفضي إليه إذا كانت مصلحة العباد مقصود الشارع فهي داخلة في عموم شرائعه وأحكامه والفقهاء بالنسبة للمصالح الدنيوية وعلاقتها بالنصوص الشرعية قد انقسموا إلى ثلاث طوائف[6] *الاولى التزموا النصوص لا يعرفونها إلا عن طريق ظواهرها ولا يفرضون أي مصلحة وراء هذه النصوص وهؤلاء هم الظاهرية نفاة القياس فهم يقررون انه لا مصلحة إلا ما جاء به النص و لا تلتمس في غيره *االثانية تلتمس المصالح من النصوص ولكن تتعرف من عللها مقاصدها وغاياتها فيقيسون كل موضع تتحقق فيه مصلحة على الموضع الذي نص عليه في هذه المصلحة بيد أنهم لا ينظرون إلى المصلحة إلا إذا كان لها شاهد من دليل خاص حتى لا يختلط عليهم الهوى الموهم للمصلحة بالمصلحة الحقيقية فلا مصلحة معتبرة إلا ما يشهد له نص خاص ا واصل خاص ويعتبرون الضوابط التي تتحقق فيها هذه المصلحة غالبا علة القياس *الفريق الثالث قرر أن كل مصلحة تكون من جنس المصالح التي يقررها الشارع الإسلامي بان يكون فيها محافظة على النفس أو الدين أو النسل أو العقل أو المال ولكن لم يشهد لها أصل خاص حتى تصلح قياسا فإنها يؤخذ بها على أنها دليل قائم بذاته وهذه هي التي تسمى مصلحة مرسلة أو استصلاحا والمصالح الحقيقية هي التي ترجع إلى أمور خمسة حفظ الدين' وحفظ النفس وحفظ العقل، وحفظ النسل ،وحفظ المال. لان هذه الأمور الخمسة بها قوام الدنيا التي يعيش فيها الإنسان و لا يحيا حياة تليق إلا بها والمحافظة على المال تكون بتنميته من الطريق الحلال التي تتبادل فيها المنافع من غير ظلم ولا جور والمصلحة المعتبرة هي التي تتوفر فيها الشروط التالية: 1- الملائمة بين المصلحة التي تعتبر أصلا قائما بذاته وبين مقاصد الشارع فلا تنافي أصلا من أصوله ولا تعارض دليلا من أدلته القطعية بل تكون متفقة مع المصالح التي يقصد الشارع إلى تحصيلها بان تكون من جنسها ليست غريبة عنها وان لم يشهد لها دليل خاص 2- أن تكون معقولة في ذاتها جرت على الأوصاف المناسبة المعقولة التي إذا عرضت على أهل العقول تلقتها بالقبول 3- أن يكون في الأخذ بها رفع حرج لازم بحيث لو لم يؤخذ بالمصلحة المعقولة في موضعها لكان الناس في حرج والله تعالى يقول "ما جعل عليكم في الدين من حرج " الحنفية والشافعية لا تعتبر هذا الأصل وادخلوه في باب القياس فان لم يكن للمصلحة نص ترد إليه فإنها ملغاة لا تعتبر[7] ومن أدلة المالكية ذات الصلة بموضوعنا المصلحة المعتبرة تشمل كل ما يعود على الأمة كلها، أو على كل فرد بحد بذاته، بصلاح الدين والنفوس والعقول والأعراض والأموال، ولذلك فقد شُرعت الأحكام جزئياتها وكلياتها للمحافظة على هذه المصالح وتكثيرها، وإزالة كل ما يؤدي إلى نقصها إجماع..[8] يقول الشاطبي "إن المصالح التي تقوم بها أحوال العبد، لا يعرفها حق معرفتها إلا خالقها وواضعها، وليس للعبد بها علم إلا من بعض الوجوه، والذي يخفى عليه منها أكثر من الذي يبدو له، فقد يكون ساعيا في مصلحة نفسه من وجه لا يوصله إليها، أو يوصله إليها عاجلا لا آجلا، أو يوصله إليها ناقصة لا كاملة، أو يكون فيها مفسدة تربي في الموازنة على المصلحة، فلا يقوم خيرها بشرها. وكم من مدبّر أمراً لا يتم له على كماله أصلاً، ولا يجني منه ثمرة أصلاً، وهو معلوم مشاهد بين العقلاء. فلهذا بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين إذاً فالمصلحة الشرعية هي المحافظة على مقاصد الشارع ولو خالفت مقاصد الناس، لأن مقاصد الناس – والحالة هذه – ليست مصالح حقيقية، بل أهواء وشهوات وآراء فاسدة ألبستها العادات والأعراف ثوب المصالح. وقد أجمع العلماء على أن أحكام الشريعة الإسلامية مشتملة على مصالح العباد، ومحققة لها، ووافية بها، سواء أكانت ضرورية أم حاجية أم تحسينية. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ولا يمكن للمؤمن أن يدفع عن إيمانه أن الشريعة جاءت بما هو الحق والصدق في المعتقدات، وجاءت بما هو النافع والمصلحة في الأعمال التي تدخل فيها الاعتقادات".3 وما ذكره شيخ الإسلام هو معنى قوله تعالى عن القرآن العظيم( وتمت كلمات ربك صدقا وعدلا ) أي: صدقاً وحقاً في جميع أخباره، وعدلا وصلاحافي جميع أحكامه وتشريعاته. ويلاحظ أن المالكية أكثر توسعة في المفهوم باعتماد المصلحة المرسلة ويرى الإمام مالك رضي الله عنه بان المصلحة تخصص النص إذا كان عاما غير قطعي وترد خبر الآحاد إن عارضها لأنه يكون بين أيدينا دليلان احدهما ظني والأخر قطعي . ومن المقررات الفقهية انه إذا تعارض ظني مع قطعي خصص الظني بالقطعي أو رد إن كان غير قابل للتخصيص …… والمحافظة على المال تكون بمنع الاعتداء عليه بالسرقة والغصب وتنظيم التعامل به بين الناس على أساس العدل والرضا وبالعمل على تنميته ووضعه في الأيدي التي تصونه وتحفظه وتقوم على رعايته … ويدخل في المحافظة على المال كل ما شرع للتعامل بين الناس من بيوع واجارات وغيرهما من العقود التي يكون موضوعها المال… يتبع عبدالسلام يونس عن بحث المصلحة المعتبرة في تدبير المال العام اشراف الدكتورة ناجية اقجوج
[1]لسان العرب [2]مجموع فتاوى ابن تيمية [3]رواه مسلم [4]نفسه [5]جامع العلوم [6] أصول الفقه محمد أبو زهرة ص 279-280. [7]نفس المصدر [8]كتاب الاعتصام للشاطبي ج2