قبة السوق، ذاكرة مدينة تازة، أبدع الأستاذ عبد الإله بسكمار في تجسيد حركيتها ورصد أحداثها والكشف عن الهشاشة والعيش اليومي المترهل، في فضاء زمني ومكاني، والذي له بالطبع خصوصياته ومميزاته المرتبطة بالسيرورة الزمنية والمكانية للقبة المذكورة، أسئلة حارقة أثارها الأستاذ وهي بالكاد لازلنا نعايشها ونتاعيش معها، وتبقى الإجابة عنها معلقة إلى حدود الآن. رواية قبة السوق رصد من خلالها الأستاذ سيرة المكان والشخصيات على خلفية تاريخية أخذت أبعادا اجتماعية كاشفة لتفاصيل كثيرة من العادات والتقاليد، والطبيعة الإنسانية. قبة السوق دخلت التاريخ الروائي عبر بوابة واسعة، شخصها الكاتب في لوحة فسيفسائية أنيقة وبراقة، كانت له جواز مرور إلى عالم مليئ بالحكايات والتفاصيل والصخب، عكس ما يجري في الأحياء الهادئة المستقرة، حيث صاغ شخصياته بحرفية ومهارة عالية، أهله ذلك لأن يحتل الريادة في مصاف الروائيين الكبار. تتزاحم الأحداث إذن وتتسارع في القبة تاركة تداعياتها على الصديق الشخصية الأقوى في الرواية، وعلى عبد الهادي وعبد الخالق، والسي عبد السلام وكنزة وفاطمة، والمعلم السبيع وقدور بن سليمان وبوبكر السوسي، وعزوز المغراوي واحميدة لعور والشريفة، وغيرهم كثير. وهي شخصيات تمثل رموز قبة السوق طبعا، وتحمل على أعتاقها أكواما من اللاءات والآهات تطمح إلى الوصول إلى آليات تمكنهم من حياة إنسانية كريمة، لكن دون جدوى. ما من شك أن الكاتب وهو يسرد علينا أحداث قبة السوق، يدعونا دعوة حميمية إلى استرجاع الذاكرة، خصوصا أولئك الذين عايشوا الظرفية التي تؤرخ لفترة السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، بالإضافة إلى اللمسة الإبداعية والجمالية والجرأة التي تميز بها قلم الأستاذ في تناوله الأحداث والشخصيات، وهذا مكنه من توسيع أفق إبداعه على اعتبار ان الجرأة لا تفسد الفن ولا تسمم الرواية. شخصيات اختار لها أسماء مستعارة، وهي بالكاد من معايير ومميزات العمل الإبداعي المتميز الهادف والفعال. الصديق الذي يعشق القبة حتى النخاع من خلال حبه للمقلاة وللدوائر الاسفنجية والدائرية، كنا نلحظه وهو وراء مقلاته يدندن على أنغام محمد عبد الوهاب وأم كلثوم، هذا الحس الذي كان يعطيه زخما من الحيوية والنشاط، مشفوعين بروح لا تخلو من متعة ودعابة. هذه الخصوصيات، أهلت الصديق إلى احتلال الريادة في مجريات الأحداث لقبة السوق مكنت سلعته من النفاذ والإقبال عليها من قبل رواده الذين كنا نراهم مصطفين صباح مساء أمام دكانه. عبد الخالق ذو البشرة القمحية المرتبط بالمعرفة الأكاديمية، بالرغم من حداثة سنه، وانفصاله عن الدراسة في سن مبكرة، تمكن من تحويل دكانه إلى خلية نقاش أفكار كانت وديكارت وماركس ولنين وإسبينوزا وغيرهم، حيث كان يجادل ويبرع في ذلك، مستعملا أسلوب الإقناع والتأثير في ثلة من رجال التعليم والمثقفين بالمدينة حيث استطاع هذا الأخير وفي ظرف وجيز بفضل الكفاءة التي امتلكها للتأثير على نفسه. أفل نجمه في سن مبكرة مع الأسف الشديد وهو ما لم يذكره الأستاذ في روايته ربما سيأتي ذلك في الجزء الثاني من الرواية. عبد الخالق الشاب الطموح الجميل المحيا، الذي كانت تتهافت على دكانه الحسنوات كذلك من أجل نسج علاقة غرامية معه الشيء الذي كان يعارضه الصديق جملة وتفصيلا، على مرآى ومسمع المارة ويهدده بتسريحه وإغلاق دكانه. لم يكن يخلو وقت الذروة، ونحن نجوب قبة السوق تحت أسقفة القصب حيث كانت تتسلل أشعة الشمس وتلسع رؤوسنا في غلالات حارقة. تطرق آذاننا صيحات المتسولين والباعة المتجولين، والنشالين ونقرات أجراس بائعي الماء، ومعاكسي الفتيات، والشحاذين واللصوص، وهم يتدافعون مخترقين ومنسلين بين عباب البشر، الذي كان يكثر عددهم في هذه اللحظة من النهار، إضافة إلى بهارات الأطعمة وأريج الحلاقة وعطر التوابل وبراز البهائم ذو الرائحة النتنة ورائحة دهان الأحذية الذي كان يعبق مدخل قبة السوق، وأغاني أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب واسمهان... هي أحداث واقعية إذن أبرز الأستاذ عبد الإله بسكمار في تجسيدها وتمثيلها، وفي نفس الآن يدعونا إلى استرجاع الزمن النقي الجميل، من عمرنا عشناه سويا مع الكاتب، هي لحظات حميمية حفزتنا بطعم حياة متفائلة دفعتنا إلى استكمال ما تبقى من لحظات مستقبلية، اللحظات التي عشناها مع الكاتب بالقبة هي لحظات التيه وإطلاق العنان لخيال مفعم بانتظارات جميلة وبراقة لحظات مفعمة بالتفاؤل والإقبال بنهم على الحياة. قبة السوق أراد لها صاحبها أن تكون ركحا حقيقيا منفتحا على المجتمع بكل حركيته، الانفتاح على القاع المغربي وعلى معضلاته، والتي كانت زئبقية في كل توصيفات الكاتب تقريبا. لذلك برع الأستاذ في وضع سيناريو محبكا وإخراجا بارعا بتقنياته وممثليه، لا تخلو من تراجيديا واقعية صادمة، أحيانا بلغة بسيطة تناسب المقامات والأحداث التي تناولها الأستاذ “الله ينعل لي أخراك أولد لحرام” لغة تتماشى مع المعاش اليومي المترهل المهووس بآهات المواطن البسيط، الذي يئن باستمرار من فرط قصر اليد، والخصاصة والحاجة في كل هذا وذاك تطفو شخصية الكاتب على السطح، الشخصية المرحة، المفعمة بالنكتة والدعابة والحميمية، لذلك برع الأستاذ وتألق إلى حدود التفوق في رصد حركية مجتمع مصغر بكل أمانة وصدق، بما في ذلك تشخيص الحالة العائلية للصديق، عاداتها في النوم وفي الأكل، وفي نمط العيش وتفاعلها مع باقي الأسر العائلية التازية. الطربوش الوطني والجلباب كان يمنح شخصية الصديق هبة خاصة ووقارا قل نظيره في القبة وأثناء سفره. عين الصديق لا تنام أيضا في توجيه الأبناء والسهر على مصلحتهم وانفراده بالقرار دون غيره على اعتبار أنه هو الشخصية المحورية في الأسرة الممتدة المنتجة، والتي لم يعد لها وجود حاليا في ظل الأسرة النووية. مزاجية الصديق وعدم اتزانها تتحكم فيها عوامل كثيرة، كالتصدع المبكر الذي عرفته العلاقة الزوجية لوالديه، لذلك كان مضطرا لتحمل أعباء جسام تجاه مرزاق الذي تزوج غيرما مرة، وفاطمة التي بدورها انفصلت عنه وتزوجت هي بدورها في حي أشرقيين او بني كلبون، إضافة إلى تحمل أعباء أبناء الكاملة، ناهيك عن مشاكل عبد الهادي وعبد الخالق، ومستخدميه المتعاونين معه في قبة السوق. غير ما مرة أزبد وأرعد. “أويلي واندبتو أولد التالفة هذا ما زال شاخر”، حينما يتأخر قرطابو في فتح الدكان في وجه الزبناء. دعابة الكاتب وسخريته في تناول أحداث ومواضيع قبة السوق، هي بدون شك مستوحاة من شخصية الصديق والتي بدورها وبالرغم من المعاناة التي جتمت على صدره، كان يخلق لنفسه من حين لآخر هامشا من المتعة والفرجة، في حضور المعلم السبيع وفرقته في صباحات من أصباح المدينة، على نغمات الغيطة ودقات الطبل، والتي أثرت ولا شك سلبا على آذان الغاصين في النوم من قاطني قبة السوق. بالإضافة إلى هوسه بطرب الملحون وإنشاده، وتقليده لسيدة الطرب العربي أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب، وهو يعالج الدوائر الاسفنجية في دكانه بقبة السوق، كيف لا وهو “مايستر” الأمداح والملحون بامتياز. لم يغفل الأستاذ الأمراض الاجتماعية والرذائل التي تمخر المجتمع المغربي بكل أطيافه، كالنميمة، والحسد والكذب، وهي صفات أيضا أثثت نفسية أصحاب الدكاكين في القبة، وكل من تربطه علاقة مع الصديق، حيث تصله الصغيرة والكبيرة على عبد الخالق، والذي كان طبعا تحت المجهر. الأوضاع الأمنية والأحداث الساخنة التي مر بها المغرب والوطن العربي، كانت حاضرة وبكل قوة في أحداث الرواية كانقلاب الصخيرات، وأوفقير والمسرة الخضراء، وموت عبد الناصر وإخفاقات العرب في حروبهم مع العدو الصهيوني، والمجازر الوحشية التي ارتكبها في الوطن المحتل فلسطين. انقلبت الأوضاع رأسا على عقب في قبة السوق، وانمحت معالم كثيرة منها، اختفت شخصياتها المؤثثة للأحداث بالرواية، جلها غيبها الموت، أو أقعد ما تبقى منها المرض، في أركان مقرورة بالمدينة العتيقة، ولم تعد تفوح منها رائحة الاسفنج والحرائر التي كانت يعبق أريجها فضاء القبة، بيع دكان الصديق وعبد الخالق، وتوارت في لمحة البرق ذكريات جميلة، افتقدناها، ولم تعد نحتفظ بها ولا نعيشها سوى مع فصوص الرواية “قبة السوق” والتي تتماهى كثيرا في قيمتها الأدبية والفنية مع رواية زقاق المدق واللص والكلاب وأولاد حارتنا وخان الخليلي للأديب المصري نجيب محفوظ. بوشتى بن الطالب