من حسنات هذه الحكومة علينا، أنها شدت أنظارنا إليها، وجعلتنا نتلهف يوميا لرصد خرجات أعضائها، وتتبع حركاتهم وسكناتهم، حتى اضطررنا لمعاينة خطواتهم وهم بالأسواق أو على متن القطارات، غير أن الرجة الكبرى جاءت من أروقة وزارة التربية الوطنية، من خلال الحركة التي أسسها الوزير الجديد، بفعل قراراته الفبرايرية (لا نقصد حركة 20 فبراير التي احتفلت بعامها الأول)، والتي اختلف حولها الفاعلون بين مثمن ومشكك، وبين متحمس ومتضجر؛ فكيف يمكن أن نقرأ مرجعيات وتداعيات هذه الإجراءات؟ I. 16 فبراير 2012: بيداغوجيا الإدماج: القطيعة بلا بديل سارع وزير التربية الوطنية إلى إعلان القطيعة مع بيداغوجيا الإدماج، من خلال فك العقدة مع Xavier reogiers مستشار الوزارة في تنزيلها، وإعطاء الصلاحية لمديري المؤسسات التعليمية والأساتذة بالتعليم الابتدائي من أجل اتخاذ القرار حول اعتماد هذه البيداغوجيا من عدمه؛ مع الإلغاء التام للمذكرة 204 المتعلقة بالتقويم ، وتوقيف جميع عمليات التكوين المرتبطة بالإدماج. إرساء الاستقرار في المنظومة التربوية، والاعتماد على الخبرة المغربية، دافعان أساسيان لاتخاذ هذا الإجراء، الذي اعتبره البعض قرارا تاريخيا، لأنه أعاد الارتياح للمدرسين والمدرسات، وأزال عنهم وزر تطبيق بيداغوجيا الإدماج، وبذلك استجاب لمطلب النقابات التي حرضت على مقاطعتها؛ لكن وفي المقابل، تتناسل أسئلة لامتناهية في حاجة إلى أجوبة أو بالأحرى إلى إعادة تقييم هذه الخطوة، ومنها: - إذا كان وزير التربية الوطنية يؤمن بالخبرة المغربية، فلماذا غيبها عند اتخاذ هذا القرار؟ - ماذا لو قررت بعض المؤسسات التعليمية الاستمرار في العمل ببيداغوجيا الإدماج خلال الأربعة أسابيع المخصصة لها والمتبقية من السنة الدراسية، فماذا يكون مصير هذه الفترة في بقية المؤسسات، خاصة ونحن نتبنى تأمين الزمن المدرسي؟ - كيف سيتم التعامل مع دفاتر التحملات المتعلقة بالتأليف المدرسي التي تنبني على بيداغوجيا الإدماج؟ هل التعديل أم الإلغاء هو ما سيكون مصير هذه العملية برمتها؟ - ما مآل الإرث الذي خلفته هذه البيداغوجيا من أطنان الكراسات والدلائل والوثائق المرجعية، والتي استنزفت ميزانية كبيرة جدا؟ هل ستصدر مذكرة توصي بإحراقها أم يتم وضعها في متاحف للذكرى؟ - كيف يمكن إعادة الثقة لدى الفاعلين التربويين من أجل الانخراط في بيداغوجيا جديدة، ونحن نكرس ثقافة التجريب وكأن مؤسساتنا مخبر، وأبناؤنا فئرانه؟ - ماذا لو قالت “نقابة المتعلمات والمتعلمين” نعم لهذه البيداغوجيا لأنها تحيل على الإنتاجية والوظيفية بدل بيداغوجيا المحتويات التي يتمترس وراءها بعض المدرسين والمدرسات؟ أستتم الاستجابة لمطلبها كما تتم لمطالب بقية النقابات؟ أم أن فئة المتعلمات والمتعلمين تبقى آخر من يؤخذ برأيه، سيما وأننا لا نكف عن التبجح بكون المتعلم(ة) يمثل مركز العملية التعليمية التعلمية؟ - هل حقا لدينا بيداغوجيا من أصل محلي؟ أم أن البيداغويات جميعها وافدة علينا من الغرب، وأن خبراءنا الوطنيين لا يقومون سوى بترجمتها، وفي أحسن الأحوال تجنيسها بدعوى تكييفها مع الخصوصية الوطنية؟ - وأخيرا ما محل المفتشين التربويين من هذا المخاض، باعتبارهم الهيئة التي يخول لها القانون تدبير الشأن التربوي؟ إن الجواب الوحيد عن هذا التساؤل، والذي بين أيدينا، هو بلاغ نقابة مفتشي التعليم الذي “يندد بأغلظ عبارات التنديد بالتطاول على اختصاصات المفتشين بالقرارات المتخذة، والتهميش الكيدي للهيئة من خلال تفويت اتخاذ القرار في المقاربة البيداغوجية، وتدبير الزمن المدرسي بالمؤسسات التعليمية إلى المديرين والمدرسين دون المفتشين ضدا على النظام الأساسي لموظفي وزارة التربية الوطنية، والمذكرات التنظيمية، وكل الأعراف والتقاليد التربوية منذ الاستقلال حتى اليوم، مما يعتبر تهديدا وجوديا للهيئة”. II. 17 فبراير 2012: منهجية الوزارة في التدبير: الإشراك أم الارتباك أعربت النقابات الأكثر تمثيلة عن ارتياحها للقرارات والإجراءات التي عبر عنها وزير التربية الوطنية خلال اللقاء الذي عقد معها، يوم الجمعة 17 فبراير 2012، والتي همت مختلف الفئات والملفات، ومنها (فئة مديرات ومديري المؤسسات التعليمية، ملف الأساتذة المبرزين، ملف مفتشي التوجيه والتخطيط التربوي، ملف الأطر المشتركة، الامتحانات المهنية، التكوين المستمر، المذكرتان 122 و204، ملف الأعمال الاجتماعية، السكنيات الإدارية والوظيفية، وضعية أساتذة سد الخصاص، أساتذة محو الأمية، أساتذة التربية غير النظامية، الأساتذة العاملون بأوروبا، الدكاترة العاملون بقطاع التربية الوطنية، ملف تغيير إطار المجازين...). نلمس حرصا كبيرا من الوزير الجديد على الاستجابة لمطالب النقابات التعليمية، وإزالة أسباب التوتر في المؤسسات التعليمية وإنصاف مختلف الفئات المتضررة، وهو في الآن ذاته اعتراف بدور الشركاء الاجتماعيين في تحقيق وإرساء الاستقرار الذي ينشده؛ ولا يسعنا – في هذا الإطار- إلا أن نثمن هذا التوجه ومأسسته، إلا أن حرقة السؤال تبقى تلاحقنا: - هل الثقافة التي يريد وزير التربية الوطنية أن يؤسس لها مع الشركاء الاجتماعيين، هي نفسها التي تطبع العلاقة مع بقية الهياكل والأطر بالوزارة؟ أم أن الأمر مجرد جبر للخواطر، في إطار مقاربة أمنية على حد قول المثل المغربي: “الخواطر مرضية ولا حاجة مقضية”؟ - كيف يمكن تفسير استجابة الوزير لمعظم مطالب الجمعية الوطنية لمديرات ومديري التعليم الابتدائي، و”مبادرته لأجرأة ما تم الاتفاق عليه مع الجمعية من خلال توجيهاته لمديري الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين ونواب الوزارة”، في الوقت الذي سبق له أن رفض المحضر المشترك الذي وقع سابقا بين الوزارة والجمعية، معلنا إغلاق باب الحوار معها؟ هل هو اعتراف بالتسرع في اتخاذ قرار الرفض؟ أم أن في الأمر إعادة لترتيب الأدوار، بتحجيم دور الجمعية في المجال التربوي والتأطيري فقط، وإحالة الملفات المطلبية على التمثيليات النقابية؟ - كيف يمكن الجمع بين ما جاء في مراسلة وزير التربية الوطنية لمديرات ومديري الأكاديميات والنواب بتاريخ 15 فبراير 2012 حول تمكين المديرات والمديرات من وضع استعمالات الزمن الخاصة بهم وتلك الخاصة بالأساتذة، وما جاء في مشروع المذكرة الخاصة بتدبير الزمن المدرسي بسلك التعليم الابتدائي، بعد إلغاء المذكرة 122، خاصة وأن مشروع المذكرة ينص على أن الأكاديميات الجهوية والنيابات الإقليمية هي التي تقوم بالإشراف على عملية تدبير الزمن المدرسي توجيها وتتبعا وتقويما وفق الموجهات الآتية: • احترام الغلاف الزمني الأسبوعي الرسمي، مع مراعاة مبدأي المرونة والتكييف مع الخصوصيات الجهوية والمحلية؛ • ملاءمة تدبير الزمن المعتمد مع الاستعدادات الجسمية والذهنية للمتعلمات والمتعلمين؛ • برمجة التعلمات بما يراعي الإيقاعات اليومية والأسبوعية والسنوية وكذا خصوصيات المواد والأنشطة المدرسية؛ • إعطاء الأولوية القصوى لمصلحة المتعلم(ة) عند إعداد جداول الحصص؛ • إلغاء العمل بمبدأ تخصيص ثلاث ساعات أسبوعيا لبرمجة حصص خارج الحجرات الدراسية؛ • جعل المدة الزمنية المخصصة لكل حصة دراسية تتراوح بين 30 و50 دقيقة، مع احترام الزمن المخصص لكل مادة تعليمية؛ ويتحسن إعطاء الأفضلية لاعتماد حصص من 40 دقيقة كلما أمكن ذلك. في حين يتم إعداد جداول الحصص الأسبوعية تحت إشراف مديرات ومديري المؤسسات التعليمية بما يراعي المذكرات المؤطرة لتدبير الزمن المدرسي؛ ومصادقة مدير(ة) المؤسسة على الصيغ المعتمدة قبل عرضها على المفتش(ة) التربوي(ة) المعني(ة) للمصادقة عليها أيضا بعد التأكد من مطابقتها للمقتضيات المشار إليها في المذكرات الصادرة في الموضوع؟ فأين هذا التمكين، ما دام أنه لا جديد حول الإجراءات التي سيقوم بها المدير؟ III. الاتنين 20 فبراير 2012 : جواب الوزارة على سؤال شفهي آني حول ” المقاربة الحكومية في مجال إصلاح نظام التربية والتكوين ” ستتمحور أوراش وزارة التربية الوطنية في عهد الوزير الجديد، حول : - قضايا الحكامة وجودة النظام التعليمي واستعادة وظيفته التربوية والاهتمام بوضعية الأطر التربوية ؛ - التفعيل الأمثل والسريع للمجلس الأعلى للتعليم كمؤسسة دستورية؛ - إعادة الثقة في المدرسة العمومية وتوسيع هامش حرية التدبير التربوي والمالي للمؤسسات التعليمية؛ لذلك سيتم التركيز على: - جعل المؤسسة التعليمية في صلب الاهتمام: من خلال منحها سلطة فعلية واستقلالية فاعلة في التدبير بما يجعل الأطر التربوية والإدارية للمؤسسات منخرطة ومعبأة ومسؤولة اتجاه النتائج ؛ - الارتقاء بحكامة قطاع التربية: من خلال تعبئة الطاقات البشرية والوسائل المادية واستعمالها بشكل أمثل؛ - الارتقاء بمهام المدرسة الوطنية لتحقيق أهداف المدرسة الجيدة للجميع. إن منح المؤسسات التعليمية السلطة الفعلية والاستقلالية الفاعلة في التدبير، هو من أبهى صور اللامركزية واللاتركيز. وهو بذلك يستجيب لمقتضيات الحكامة الجيدة، لكن أين يتجسد هذا المبدأ في بعض القرارات والإجراءات، من قبيل ما ورد في المذكرة الوزارية بتاريخ 16 نونبر 2012 في موضوع التكوينات المستمرة: “تجدر الإشارة إلى أن برمجة التكوينات الملحة وذات الطابع الهام ينبغي أن تحظى بموافقة مسبقة من السيد الوزير”، أو “لا يمكن إعفاء المديرين إلا بموافقة السيد الوزير”؟ أليس من شأن شرط هذه الموافقة أن يكرس قمة التمركز والمركزية، بل لربما قد يحيل على شخصنة القرارات بدل إعمال المنهجية المؤسساتية وفق المقاربة التشاركية؟ أم أن الوزير بقراره يسعى إلى الحد من النزيف الناتج عن سوء التدبير الإداري على المستويين الجهوي والمحلي؟ إن كل قرار يتم اتخاذه في إطار المنظومة التربوية، إلا وسيكون محددا للآفاق التي يصبو أبناؤنا إلى وصولها، على أن الخطأ في الاختيار يؤدي حتما بهذا الأفق إلى الانهيار. لذلك يعتبر تفعيل المجلس الأعلى للتعليم، الإطار الدستوري الأنسب لرسم سياسة تعليمية يكون لها صدى لدى الفاعلين التربويين، وفي مختلف فضاءات المؤسسات التعليمية ومحيطها الاقتصادي والاجتماعي.