عبئا زادتني القريحة : محمد زريول جديد قريحة الإنسان هي طبيعته التي جبل عليها ، يقول ابن منظور وجمعها قرائح ، لأنها أول خلقته ، وقريحة الشباب أوله ، وقيل قريحة كل شيء أوله ، والقريحة والقرح أول ما يخرج من البئر حين تحفر ، فبهذا المعنى وغيره ، تصبح قريحة الشاعر محمد زريول باكورة إنتاجه الأدبي ، وهي بالنعت ذاته ، ديوان شعري موسوم ب”عبئا زادتني القريحة” ، واختزالا لكل التفاصيل حول سيكولوجيا العنوان ، فإن “عبئا زادتني القريحة ” وجع أولي في قائمة طويلة لأوجاعنا اختار الأديب لها طقوسا ثكلى مزهوة بماضيها ، مرتبكة في حاضرها ، تحف بها كآبة سمراء فقدت كل الحنان ، توابلها بهارات مائعة ، ظلت تحارب الهزائم بالشتائم ،وتعاند الأمكنة بالزمان ، حتى سقطت بلا معنى في جوف قروش بلا محيطات ، وجع القريحة يأتي هذه المرة وجعا ترابيا بامتياز ، لكنه وجع كتابة، تتقمص لبوس صراخ هامس ، وتهيكل العبء ، لهيبا، حرقة ، ملحا بحجم بحر يضيف زريول مقدار ضافيا منه برغبتنا إلى جرحنا العربي النازف ، منذ أن شرع حاكموه في ترسيم الهزائم ، وتدوين الانكسارات . ولأن قريحة الشاعر لم يثقلها التعب ، فقد استقت جادة التاريخ المضيء من عين الشيخ الراعي حين تأبط العصا لمآربه ،واتخذ الربو لظهره متكأ ، حيث سارا معا يرسمان المحطات يسأل بعضهما الآخر : “أتدري ما التوقف حين يعلو الارتفاع؟ يعزف التنفس وترا يدق النبض إيقاعا وتتراقص الصور كل المشاهد صورا الدوخة والدهشة القمة والقلعة وجحمرش.ص32 الشاعر لا يقول ما شاء مهما طال سهوه ، فقد رحل يوزع نكوص الذات المهزومة على أديم الواقع الحاضر ، دهشة ودوخة ليبقيه طافيا مشتعلا ، إنه يحرك الخامد في أعماقنا ، يتوجع فينا بعمق الحنين ، مستنفرا توهجنا الغارق في حضن خذلان الحاضر ، ويتوق إلى قادم فاجر في لبوس الجائر ، بدء بفلسطين ، ثم غزة الجريحة التي يهمس إليها ملء الصدر “أنت الطهارة ،أنت النضال” ونحن العرب الخراب من السراب منذ السراب ننسج الكلام تلو الظلام ، ونرتق حاضرنا المنبطح بشمع الأساطير وخيط المحال . وحين تعطلت أبواق المآذن في الموصل ، ثم فقدت بطارية بابل طاقتها في الناصرية والنجف ، ونفذت في تماس خفي شحنتها” المنيرة” في البصرة ثم بغداد حيث ترسو هموم الشاعر زريول ، استنفر الشاعر رئتيه، وصاح بملء عروقه و دمه” ” متى يعلن الصباح ببغداد ؟ لكن “لحسن الحظ غاب الصوت وبقي الجامور” ص21 إلى هنا يبدو الشاعر منسجما ومتماسكا مع منطق التاريخ ، فكلما تخلفت الذاكرة إلى الوراء ، إلا ورمت بالكل في كنف الحنين ” والأسى. لذلك ، حين أطلق الأديب والشاعر المغربي محمد زريول قريحته ، باكورة إنتاجه الأدبي “عبئا زادتني القريحة” عن مطبعة ” آنفو برانت ” بفاس في75 صفحة من حجم متوسط ولوحة غلاف فنان مبدع هو الآخر محمد قنيبو، فيما صممه بذوق رفيع محمد شهيد شاعر وفنان ،كان ذاك النسر قد لبس ” البزة البعثية منسوجة من الريش مكوية بنار القذائف بحماسة زائدة غير جلده كتب التحدي بلغة الببغاء الفصيح نقر البوق المكبر بعيد ذكر الفجر صاح: هذا صباح بغداد قد لاح صباح الخير صباح بغداد ص23 قصائد الديوان المومأ إليه تنشر عبقها ، وزريول في كنف الحنين ، يتشمم عبق الماضي الخالد والأريج الدفين ، شعرا، قريحة ، أضمومة أرادها محمد زريول عبئا مضافا ، صرخة بقوة الهمس ،توقظ العالم النائم من أذنيه . الديوان ليس أكثر من نعي شريف حين يموت الرجال تباعا ،وذاكرة تأبى حين يثقلها الهم بالنسيان أن تسهد ،ذات تبتهج بما كان في القديم عسيرا ، غدا الآن وهنا مباحا يسيرا ، إنه بالجملة ، عين تحكي ما يدور في الرأس،من جرح وجراحات تأخر قليلا ، لكنه جاء فقط في وقته ، كي يمقت الحياة الباردة كالصقيع ، ويعلن في ناظره وهو الرائي بحركة تكتنفها الأوجاع، أن من ابتلي بداء الشعر ، لا ، لم ، ولن يعش صمت أبي الهول إزاء ما يحدث من دمار في القلب وفي الذاكرة ” فما لم يحرق من هذا الامتداد العربي الجريح ، ينهب ويسرق ، لذلك ومهما عبثت العواصف بالزهور ، فان الأرض المقدسة تطوي البذور كما تطوي الرفات وتروح معها يقول الشاعر . أما قصائد الديوان “العشرون” فقد جاءت تباعا: 1. صرخة بقوة الهمس 2. مرمى العدوان 3. طاحونة الجحيم 4. بغداد 5. الحقيقة تقريبا 6. خسوف 7. كالغياب 8. من يعلن الصباح ببغداد؟ 9. يموت الرجال تباعا 10. قريحة لم يثقلها التعب 11. خميس الثلج 12. روائح الشذور 13. لقطات 14. متفرقات 15. كالسمر 16. على ايقاع الزهد شطحتان 17. حبيب القلب 18. راقصة الاحلام 19. هبة الريح 20. حلم على الأرض محمد زريول ذاك الإنسان الشاعر المسكون بالهباء ، الآن وهنا ، ليس أكثر من علامة تدعو إلى التوقف حين يعلو الارتفاع ، لكنه بالمقابل مجرد كائن تم اغتيال الفرحة داخله ذات اجتياح ، ذات شهر ذات عام ، ومنذ ذلك التاريخ ، استوطنته الأحزان ، وبات يؤمن أن الأحزان قد تأتي فرادى ، منها ما يسقط على الفراش ، ومنها ما يضمخ الجسد، ويرويه ، كي يتخصب روحا تدق الضمير وتجعله مفتوحا على النداء ، من أجل بغداد كما رآها في قريحته لا شيعية ولا سنية ،بغداد بدين واحد هو الإسلام ، وتلك لعمري عين القريحة التي تزيد القارئ عبئا جميلا .