خلفت تصريحات الوزير الخلفي بخصوص التلميح بالاقتطاعات في أجور الموظفين الممارسين لحقهم الدستوري في الإضراب استياء بين أوساط الموظفين والطبقة الشغيلة عامة خصوصا في مناخ سياسي واقتصادي باتت تتأكد فيه أن الوعود سواء القبلية أو البعدية (الانتخابية) لا جدية فيها وبالتالي لن يكون لها فجر. ويعتبر هذا التصريح في خلفيته محاولة لتغطية الشمس بالغربال، إذ لا جدوى من التستر عن غياب الحنكة في تدبير الشأن العام ومواجهته بالتلميح أو بصحيح العبارة بالتهديد كما لو أننا أمام خطاب "ستاليني" اللهجة.
مما لا شك فيه أن تهديد الوزير الخلفي بالاقتطاعات في الأجور لم يكن واردا ولا مقبولا عندما كان حزبه في المعارضة وكانت النقابة الموالية لحزبه تدع للإضرابات. هل كان آنذاك حزبه أم نقابة حزبه سيوافقان على الاقتطاع في الأجور؟ هل ما كان محرما بالأمس، أصبح مجازا اليوم؟. الجواب جلي وبين، وما هو أكثر تبيانا ووضوحا هو سهولة التحول في المبادئ والمواقف عندما تتغير المصالح والوضعيات. وحتى نكون موضوعيين ومحايدين، فهذه ليست بخاصية تميز فقط حزب العدالة والتنمية يا سيد الخلفي ولكنها ظاهرة ألفها المواطن المغربي إذ ميزت، خلال مراحل حسبناها في عداد الماضي، عدة فعاليات المشهد السياسي المغربي والتي اعتبرت من بين معللات العزوف السياسي في المغرب. وها أنتم بالتلميح لاتخاذ حكومتكم لمثل هذا القرار تعززون عدم انضمام الموظف للمؤسسات النقابية والاستجابة لنضالاتها المؤطرة. وهذه خطوة ذات انعكاسات خطيرة إذ أن العمل المؤسساتي النقابي سيفتقد وزنه وشرعيته وسيتجه الموظف كباقي المواطنين نحو الشارع للمطالبة بحقوقه.
لا أعتقد أن الوزير الخلفي ولا الحكومة الناطق باسمها يجهلان أن للموظف والأجير حقوقا وواجبات تقرها المواثيق الدولية المصادق عليها من طرف المملكة المغربية والمندرجة ضمن حقوق الإنسان. وبالتالي فتهديد الموظف باقتطاع أجره إذا أضرب عن العمل مطالبا بإحدى حقوقه، قد يصنف من طرف رجال القانون تعسفا وشططا في استعمال السلطة لكونه يصد الموظف المغربي عن ممارسة حق من حقوقه الدستورية. هذا من الناحية الفردية؛ أما من الناحية الجماعية، فهذا التهديد هو مرادف لصد النشاط النقابي وهذا أسلوب قد يؤثر سلبا على الاستثناء المغربي. ربما قد يكون في اعتقاد الوزير الخلفي أن الفعل النقابي في المغرب لا وزن له لعدة خصائص مشابهة بتلك التي تميز الفاعل الحزبي في المغرب وبالتالي قد يكون من الهين، في غياب "التغطية" النقابية والحزبية، من استهداف شريحتي الموظفين والشغيلة. لا أعتقد أن الوزير الخلفي أو حكومة السيد بنكيران ستسلك هذا السبيل لكونه يعلم أن المواطن المغربي بصفة عامة ، في ظل تقاعس بعض الفعاليات النقابية والحزبية وسعيها وراء البحث عن المصالح الخاصة لأعضاء مكاتبها السياسية والتنفيذية، قد وجد في الشارع إطارا منفتحا وقابلا لضم كل التيارات الفكرية، ومجالا للتعبير ولتبليغ مطالبه. وقد يكون هذا القول جوابا لما لم يستوعبه السيد رئيس الحكومة من حراك مجتمعي في بعض المدن المغربية.
وما هي مطالب هذه الشريحة من المجتمع المهددة بالاقتطاعات في أجرها إن كانت إلا ما تضمنه خطابكم الانتخابي، أي العمل على تحسين وضعيتهم المعيشية من خلال الزيادة في الأجور وشفافية معايير الترقية وإسناد المسؤوليات وفقا للمؤهلات...، علاوة على تفعيل توصيات "مسلسل" الحوار الاجتماعي الذي بدأت جولاته منذ حكومة السيد عبد الرحمان اليوسفي. لا أعتقد أنه سيكون من الموضوعي أن يطلب من الموظف بضرورة احترامه لواجباته المهنية دون أن يحض باحترام لحقوقه. تلك هي المعادلة العادلة. فقبل التفكير في تفعيل هذا التهديد بالاقتطاع في الأجور، وجب التفكير في كون أنه لكل موظف أبناء معطلون وما يعنيه هذا الوزر الذي يتحمله الأب الموظف والأم الموظفة، فلا هم قادرون على تحمل عبء غلاء المعيشة ولا هم قادرون على تحمل عبء أبناءهم المعطلين.
قد تساءل السيد رئيس الحكومة عن ما السبب وراء الاحتجاجات الاجتماعية التي تشهدها بعض المدن والتي، حسب تصريحه، زامنها وتنصيب أول حكومة في عهد دستور 2011. نخشى أن يكون هذا التصريح من قبيل التصريحات السياسية التي صرح بها السيد رئيس الحكومة والأمين العام لحزب العدالة والتنمية حينما أشار إلى وجود بعض الجهات تستهدف عمل وزراء حزبه. فكيفما كانت طبيعة التصريحات، فالواقع يشهد أن موجة الاحتجاجات الاجتماعية والإضرابات كانت قائمة قبل تنصيب الحكومة الحالية. حينها قد وعدت الحكومة السابقة بإصلاح منظومة الأجور قصد التقليص من الفوارق الاجتماعية وتمكين طبقة متوسطة من البروز لتشكل المحرك الفعلي لاقتصاد البلد.
والغريب أن يتم إلصاق تهمة تعطيل اشتغال المرفق العام ومصالح الشعب من طرف الموظفين المضربين المطالبين بتفعيل ما وعدوا به كأنهم ليسوا جزءا وليسوا بإحدى مكونات الشعب المغربي؟ من وجب إلقاء اللوم عليه ومساءلته هما الجهاز التشريعي والجهاز التنفيذي لكونهما الفاعلين المتماطلين في إصدار القوانين والتشريعات التي ما زالت عالقة في "خزانة" الحوار الاجتماعي، كتحيين قوانين الوظيفة العمومية وإصلاح منظومة الأجور والقوانين المتعلقة بالشغل وبالاضراب وتأطيرها وغيرها من القوانين التي يبقى تفعيلها رهينا بديناميكية الجهاز التشريعي أي البرلمان أي نواب الشعب خصوصا وأن الحكومة الحالية تحض بأغلبية برلمانية مريحة تمكنها من التسريع في سن مثل هذه القوانين العالقة. ومن الأكيد أنه، بالنظر للظروف الحالية، ستكون مسألة الاقتطاعات في أجور الموظفين بسبب ممارسة حق دستوري ووفق ترخيص من وزارة الداخلية، مسألة حاسمة في إمكانية أو عدم إمكانية استمرارية صمود الحكومة الحالية والتي باتت ملامح غياب انسجام مكوناتها تترسخ من خلال عدم القدرة على إتمام معالجة أية ملف تقوم بفتحه. إذ بتنا نألف أن ملفات الشأن العام يتم فتحها قصد الضجة وليست قصد المعالجة الشمولية، ليتم طيه إلى حين إعادة فتحه قبيل الانتخابات وربما إيهام الناخبين حينها بكون الحكومة قد كانت لها الجرأة في فتح بعض الملفات ولكنها لم تتمكن بسبب ما يصطلح عليه بأيدي خفية أو بجيوب مقاومة التغيير. لم يعد المجال قابلا لمثل هذه الخطابات لكون السيد بنكيران رئيس الحكومة قد صرح في العديد من المناسبات أن ضامن وحدة البلاد قد أعطاه الضوء الأخضر، حسب تعبيره، للتعامل العادل والحق ووفقا لمقتضيات الدستور مع أية ملف يهم شأن المواطن المغربي. حقيقة ما يجري حاليا من تماطل في معالجة العديد من الملفات والشروع في إنجاز المشاريع التنموية يعكس عمليا عدم الانسجام في وجهات النظر والمنهجيات لدى كل فاعل من التحالف الحكومي في تعامله مع تدبير ملفات الشأن العام.
فبالنظر للتعثرات التي عرفها افتتاح الحوار الاجتماعي في ظل الحكومة الحالية أولا باقتصارها على التشاور مع النقابات الأكثر تمثيلية، وهذا فيه تناقض مع التصريحات السابقة الداعية إلى إشراك الكل دون إقصاء؛ وثانيا، غياب أي تلميح لإخراج ما صرحت به الحكومة السابقة عقب انتهاءها من إعداد مشروع إصلاح منظومة الأجور والتي من شأنها توضيح وتحديد ما للموظف وما عليه وفق معايير علمية وموضوعية في وقت أكد فيه رئيس الحكومة بكون عمل حكومته هو استمرارية لعمل الحكومة السابقة وبالتالي فحكومته مطالبة بتفعيل ما تم التوافق بشأنه في ظل الحكومة السابقة.
وإذا كان البرلمان المغربي يتميز بكثرة غياب أعضاءه وعجز رئيسي الغرفتين على تفعيل قانون يلزم نواب الشعب على حضور أشغال الجهاز التشريعي بالرغم من التلميح (خلال السنة الفارطة) كذلك بالاقتطاعات في أجور البرلمانيين ليسوا "المضربين" بل الغائبين غيابا شبه تام، فأعتقد أن الاقتطاعات في الأجور يجب أن تهم هؤلاء البرلمانيين الغائبين طوال مدة انتخابهم ولا يحضرون إلا في الجلسات الافتتاحية للدورات التشريعية. بل الاقتطاع العادل والحق وجب أن يكون اقتطاعا نهائيا لأجر كل برلماني ليس لغيابه عن جلسات البرلمان بل لغيابه عن تفقد منتخبيه والتواصل الدائم معهم. وبعبارة أخرى، وفي ظل الدستور الجديد الذي يمتع البرلماني بالحصانة، فقط داخل قبة البرلمان، فبإمكان إصدار قانون بموجبه تتمكن ساكنة منطقة معينة بطلب عزل البرلماني "الشبح" من منصبه مع توقيف لأجره. فليس هناك موظفون أشباح فقط، بل هناك أيضا برلمانيون أشباح. وإذا كانت الحكومة تبحث عن الموظفين الأشباح، فالشعب يبحث عن البرلمانيين الأشباح.
وعليه، فالتهديد أو التلميح بالاقتطاعات لا يجب أن يكون موجها صوب الموظف لكونه متواجد في مقر عمله وإذا دعت الضرورة للغياب بدعوة من نقابة معترف بها قانونيا وبإذن مسبق من وزارة الداخلية، فغيابه لا يكون إلا لليومين أو ثلاث مع العلم أن تكرار مثل هذه الاضرابات لا يكون في غالب الأحيان إلا لعدم الوفاء أو تماطل فرقاء الحوار الاجتماعي في تفعيل ما تم إقراره؛ بل التهديد يجب أن يهم أولئك الخائنين لثقة الشعب من جهة والمتقاضين لأجور ليسوا بأهل لها.