راكم كتبه ، دفاتره وريشته ، شهاداته ...وراكم معها سنوات حبلى بالانتفاضات ، بالجد والمثابرة ، سنوات من السهر والكلل ، وأطفأ معها شموع الأمل ، تخلص من أحلامه الوردية ، من فروسيته ، قتل الحلم وتبعثرت الأوراق ..وصار يلملم الجراح ..وعويل الليالي الطويلة ، وسكاكين الزمن الحادة ، وأسدل الستارة . أين إذن وعود عاش لأجلها ، أين إذن سنوات من العمر أفناها بين أحضان كتبه ، ...أذبل الحصاد ، أم أن السنوات العجاف أتت على كل الغلة ، فضاع الحلم وذبل ، ليستفيق على الواقع المر ، كانت في البدء أضواء المدينة ضئيلة ويوما بعد يوم تلاشت ، ليتلاشى معها حلمه الوردي السندسي . فإذا به لما صار شابا ، تنتحر الأشواق ، تتكسر مرآته ، تصفعه الحياة بصفعاتها ، وتترك على جسده الواهن ندباتها الغائرة . فأين هي الأبواب التي سمع عنها ، أين رحلت ؟ .، أم تراها ركبت إحدى القوارب هي الأخرى وفضلت ضفة تجود على ضفة شحيحة ؟؟. هل هي كذلك تاهت في زخم التناقضات وانصهرت في مجتمع آخر ؟. هو دائما عاش لأجل تحقيق حلمه ، في أن يصبح دكتورا يعالج أبناء مدينته الصغيرة ، وما بين الحلم والواقع ضاع الحلم ، اليوم وبعد مرور سنوات على تخرجه يجلس غرفته وفنجان القهوة المر يحرق شرايين قلبه ، يقتله في صمت ، ينهي على ما تبقى من بهاء الوجه ، وهو بين اغتيال المطرقة والسندان ، قدماه لم تعدا تقويان على حمل جثته التي أنهكها الانتظار ، انتظار قطار مر محاذيا ، بيد أنه لم يطرق بابه ، بل مر دونما توقف ..تتكرر المساءات الحزينة وتتوالى النكبات ، تعلو وجهه التجاعيد وتتغير ملامحه ، إنه الزمن الأغبر يسرق حلمه دونما رأفة . وفي غمرة الصراع اليومي ، وتعاقب اللكمات ، ينهزم ، يشعر بالإحباط ، يترهل جسمه ، تتغير نبرة صوته التي تعبت من كثرة السؤال وطرق الأبواب دونما جدوى. " مسروق " شاب يعيش مأساة جل الشباب المعطل ، هولا يطلب الكثير ، فمن حقه إذن الشعور بأنه موجود مادام يفكر ، أكثير في حقه أن يشعر بكينونته ، أم أن الكينونة تضيع في زمن الأقوياء؟. أم أن مقولة " أنا أفكر إذن أنا موجود " ، استبدلت ب : " أنت تفكر إذن أنت ملغى " ..هو يستغرب هذا الإقصاء ، أم أن الإقصاء أصبح هو الغالب " . أي نعم ، ست عشرة سنة قبرت ، وقبر معها " مسروق " لينضم إلى طوابير الانتظار والركل ، الأبواب ..إذن أوصدت ، السماء لم تعد زرقاء تلبدت بغيوم الشجن ، الشوارع اكتست بأجساد بشرية ، آه والمقاهي ..ثم المقاهي حشد من شباب يانع ينتظر ، يجلس في كراسيها ، وكأنه سمر فيها إلى الأبد ، النظرات الواجمة ، لا تسألني صديقي بلغة الأرقام ، - عفوك لا أجسر على إحصائها- ، ولا تسألني أيضا لما كثرة المقاهي ؟.. كما تعلم طوابير انتظار من نوع آخر، وذو صبغة خاصة ومتفردة ، انتظار قد يأتي بجديد وقد لا يأتي مطلقا . شباب أرهقه الانتظار ، نخر أضلعه وخرب اليأس أدمغته. وأخيرا سينضم " مسروق " إلى الطوابير ، مسروق الذي ما ظن يوما أنه سيرتاد " مقهى " ، أو يطرق باب إدارة أو مشغل ، يحتشد مع حشد من الجماهير التي تطالب بتوفير " لقمة " ثمن كوب ماء ، دريهمات ، يجد نفسه مرغما على ولوج المعترك الجديد. يوما بعد يوم تشتد وطأة الأزمة ، ويسافر " مسروق " عبر نفقها المظلم ، رغم أنفه ، ويدخل دوامة التساؤلات والتشاؤم ، فلم يعد يفكر إلا في انتشال نفسه من دائرة دخلها دون رضاه ، " مسروق " لم يعد يقو على المزيد من الصبر ، من حقه إذن أن يشق طريقا آخر ، وأي طريق ، طريق يعتبره الكثيرون من أمثاله الملاذ والخلاص ، هو طوق نجاة لكل غريق ، فهل حقا هو كذلك ؟ . ..من حقه التعبير عن حنقه ، كثر الحديث عن الكنوز ، عن الأموال الطائلة وعن الحياة المترفة ، كثر الحديث عن المرأة الساحرة ، عن البلاد التي تمنح طارق أبوابها كل الدفء والحب. وكثر الحديث عن مناجمها التي لا ينضب ما بها من خيرات وثروات ، وأموال . " المال " أصل المشاكل ، ونهاية المشاكل ..كما يعتبره البعض ، كيف إذن السبيل لجني المال ؟؟. ما هي أيسر السبل لتحصيله ..وهل هنالك من منفذ إليه ؟ في قهوة مدينته التي أصبح " مسروق " ، دائم التردد عليها ، مقهى تعج بخلق الله ، ولا سيما بالفئة الشابة المحروقة الجبين ، على منضدة هذه المقهى التي تعرف باسم " مقهى الشعب " سيتعرف " مسروق " على زمرة من الأصدقاء الذين تجمعهم نفس الهموم وتربطهم نفس المشاغل ، قذفتهم زوابع الحياة إلى نفس المصير ، أضحى " مسروق على موعد مع الرفاق الجدد ، أو " رفاق المحاين " ، كما يحبذ تسمياتهم ، تتوطد العلاقة بينهم ..وينصهرون كأنهم ذات واحدة ، ليصبح " مسروق " من رواد هذا المقهى ، يقصدها لقضاء أوقات طويلة رفقة الزملاء ، يتبادلون فيها الأحاديث ويرتشفون القهوة السوداء ، ويدخنون السجائر التي يتوهمون أنها تسهم في التنفيس عن كظمهم ، السجائر – عفوا أعقاب السجائر التي يتناوبون على استنشاقها وكأنها " مورفين نيسيان " ، ويا ليتها كذلك ، سجائر تطمي الهم أكثر فأكثر ..البطالة ، والدريهمات التي لا تكفي حتى لسد الرمق ، هذا إن توفرت ، فالقليل من يحصلها بلجوئه على بعض الأعمال البسيطة ، متناسيا لوضعه وضاغطا على عزة نفسه التي أضحت لكثرة طرق الأبواب والانتظار في الطوابير لا تأبه للكثير من الأشياء . فالأمر صار سيان ، الموت أو اللاموت سيان ..فعلى كل حال هناك من الأحياء من هم في عداد الأموات ..، وكثيرة هي الجنازات ، لا داعي لسردها . " مسروق " ، ومن معه " جنازة أحياء " ، ومع تكرار اللقاءات في مقهى الشعب ، واستمرار الوضع على ما هو عليه ، سيفكر " مسروق " ، ومن معه في وضع نهاية للمأساة وآية نهاية !؟. في يوم من أيام الصيف وكعادته في الأيام الخوالي هو على موعد مع " رفاق المحاين " ، بادر وعلى غير عادته الحديث قائلا : " أصدقائي الأبواب جميعها أقفلت في وجوهنا ، لم يعد لنا من خيار سوى الهجرة ، ركوب الأمواج وقوارب الموت ، فهل توافقنني ؟؟. (( ليردوا عليه : " محق أنت لا داعي لهروبنا من الواقع ، فحتى الصخر يئن من كثرة الأوجاع ، والأفواه الجائعة لا تنتظر ..انتظرنا ما فيه الكفاية ، فلنحسم الموضوع ، ونستريح ، لطالما حلمنا بشتى الأشياء ، ويستمر في تعدادها .. فيا تراك ؟ ..صديقنا " مسروق " اختار الحسم الصحيح ، أم أنه " كإيزيس والصخرة " الذي كلما وصل بالصخرة إلى نصف المسافة التي حكموا عليه بها ، إلا وتدحرج من جديد إلى نقطة البدء ، فهل سيصل " مسروق " ، وهل سترحل الجنازة عن شبابنا وأبنائنا يوما؟؟؟)).