يتميز الوضع السياسي بالمغرب الحديث بالتنوع، بمعنى وجود مجال سياسي متعدد الجوانب والمواضيع الحساسة كالأمن، والوحدة الترابية، والتربية والتعليم،... ويتميز المجال السياسي في وجود التعددية الفكرية والسياسية والحزبية وكذا النضالية والنقابية، بل والاعتراف بالوجود النقابي في ميدان التعليم خاصة والجلوس معها على طاولة الحوارات المتبادلة، وكذا الوصول معها إلى اتفاقيات والتوقيع على قوانين ومشروعات تهم ميدان التعليم . ومع ذلك، فإننا لا نستطيع الاعتراف كليا بأن هذا الوجود النقابي القائم في ميدان التعليم حاليا يمارس وظيفته بصورة كلية وكاملة وعلى الوجه الأفضل، بل من خلال تتبعاتنا لتطور الأوضاع السياسية في هذا البلد نلاحظ أن المجال النقابي الموجود في الساحة لا يرتقي إلى درجة طموحات العاملين بالقطاع من فاعلين تربويين وشركاء اجتماعيين. إذ نجد أن هناك نوعا من الازدواجية والتداخل بين الحضور المؤسسي للنقابات والتعدد الإيديولوجي لها وبين البعد عن متطلبات النضال النقابي والخوض في غمار المسؤولية القائمة على عاتقها. الأول يوضح بجلاء وجود شكل مؤسسي بدون مضمون يذكر، والثاني مضمون بدون شرعية وشفافية في المطالبة بالحقوق الدنيا ، والحياة النقابية في المغرب تقوم كلها على هذه الازدواجية الواضحة. والواجب علينا في هذه المداخلة أن نجلو مظاهر هذه الازدواجية وأسباب تفاقمها والخوض فيما إذا كان بالإمكان أن نخرج بخلاصة متفق عليها بين الجميع، تكون حدا فاصلا لإيقاف هذا النزيف التراجعي على صعيد العمل النقابي في المغرب . ربما يمكننا أن نقول، بل يحق لنا أن نجزم بأن المغرب من بين الدول العربية الرائدة في الميدان الحقوقي، دون نستحضر بعض القصور والبطء في تطبيق بعض الاتفاقيات الدولية والاعتراف ببعضها الآخر. ومنذ السنوات الأخيرة من القرن العشرين الماضي بدأت الدولة المغربية تطبق سياسة القرب والحوار بين جميع القطاعات الحيوية، وقد كانت دائما، وللأسف الشديد، تنقصها الجرأة في الوصول بها إلى الحد الأدنى المطلوب دوليا، وتلتمس الشرعية لنفسها في هذا الموضوع من خلال استحضار الكثير من الإرهاصات التي تستولدها من الواقع وتعمل على إخراجها إعلاميا تارة، وبالعنف تارة أخرى، كالتدخل لتفريق التجمهرات والاعتصامات المتعددة بالعنف والسيطرة . وطبيعي أن يكون هذا الطابع الوحشي للدولة الذي ارتداه المجال السياسي خلال العقود الأخيرة أن يؤثر تأثيرا مباشرا في المجال النقابي الموازي له، إذ جعل منه غطاء وظيفيا لمواجهة الأخطار الأخرى الخارجية تارة، وتارة واجهة سياسية لإظهار التعددية والمحاسبة، وإبرازها محليا ودوليا، بل تنامى واتسع هذا الظهور النقابي خاصة في المجال التعليمي خلال النصف الأخير من القرن العشرين بوضوح كبير، وهكذا فإضافة إلى الضعف الذي أبرزه العمل النقابي أمام قوة الدولة وسيطرتها على الوضع، وتحكمها في كل القطاعات داخل البلاد، هناك الخيانة النقابية –إن صح لي القول- التي أبداها بعض المسؤولين في المؤسسات النقابية، كلما وجدوا أنفسهم أمام اختبار عسير قد يجر عليهم ويلات الاعتقال والموت . وبعد، فقد اختصرنا بنوع من التعميم، التطورات والمظاهر التي مرت بها النقابات القطاعية والمركزية خلال خمسين عاما الماضية، سواء على المستوى التعليمي أو على المؤسسات الحيوية في البلاد، لأنها معلومة لدى الجميع، والمعلومات الكافية متداولة بين جميع المغاربة ومدونة في الأرشيفات. لقد اكتفينا بالتذكير فقط بهذه التطورات، مبرزين طابع القصور والفشل في التعاطي مع ملفات شائكة، منها من أقبر في مقبرة التاريخ. ومنها من بقي إلى حد اليوم طي الكتمان، لا يقدر أحد أن ينبش في لحدها. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن ، وبوضوح باد للعيان، هو هل يمكننا أن نترك دار لقمان على حالها؟ أم نحاول إخراج الثمين منها، وندفن القديم والمتآكل؟ . عندما أتى عبدالرحمن اليوسفي إلى الحكومة قائدا لها باسم حزبه الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، رحب الجميع به، واعتبر الحدث بمثابة انفراج سياسي وطني، وحلم بمستقبل جديد للمغاربة وللمغرب. فبدأ الرجل يؤسس للحوار الوطني والمصالحة السياسية بين المغاربة والدولة، وقد نجح نجاحا محدودا في هذا المسار، وبدأ الخروج النقابي من نعشه ومن موته المؤقت ليؤسس لنضال حداثي جديد. آنذاك كانت الساحة مواتية للقيام بخطوات ومبادرات للمطالبة بإصلاح أوضاع رجال التعليم خاصة والذين لم يسبق لهم أن استفادوا من أي تعويض أو ما شابه ذلك منذ عقود كثيرة . لكن الخطأ الذي وقع فيه الجميع، هو أنه لم يكن هناك تحليل تاريخي للوضع القائم قبل ذلك من النوع الذي قامت به الكثير من الدول لتجاوز سلبيات الماضي ومحاولة استبعادها في تشخيص عملية الانتقال السياسي والنقابي الذي كان يطرحه الوضع آنذاك. كان المسؤولون جميعهم، مشغولين فقط بحاضرهم ومستقبلهم، لذلك لم تكن لهم إرادة للعودة لنبش مخلفات الماضي الدموي والوحشي تجاه أشخاص ضحوا بالحياة والمال والدم من أجل قضيتهم، للاستفادة من التجربة رغم دمويتها ومحاولة إجلاء الغموض حولها . وعندما تطورت الأمور بعد سنوات قليلة وأصبح بإمكان النقابات التعليمية أن ترسم لنفسها مسارا نضاليا جديدا يمنحها المصداقية في أعين منخرطيها بالخصوص، كانت الحركة النقابية المطالبة بالحقوق القصوى وتجاوز الفوضى والسيبة في كل القطاعات الاجتماعية كالتعليم والصحة .... والمطالبة بسن وشرعنة وإصلاح جديد يساير متطلبات العصر الجديد، كان كل هذا بمثابة البديل التاريخي لعقود من العشوائية والفشل على الصعيد المؤسسي، وكان بمثابة إعلان بضرورة الانتقال من مجتمع السلبية والركود إلى ما نسميه بالمجتمع الجديد الذي يحدد لنفسه متطلبات حياته وحاجياتها المفترضة . وكان بعد لأي، الحوار الاجتماعي بين النقابات والحكومة لتصل بعد ذلك إلى حل بمثابة اتفاق وقع بين الطرفين، والمسمى باتفاق 19 محرم الذي جاء بأمور جديدة كانت كافية لوضع القدم الأولى نحو خلق حوار بين المغاربة جميعهم، دون اللجوء إلى أساليب تقليدية عفا عنها الزمن كالمواجهة والعنف والإضرابات غير المقننة ....، لكن وبعد أشهر قليلة من تاريخ الاتفاق، لم تستطع الحكومة من الالتزام ببنود الاتفاق، مما حدا بالنقابات أيضا للخروج بأشكال من الاحتجاجات المتواصلة كانت عنوانا بارزا نحو رسم خارطة جديدة لنضالها ومطالب منخرطيها. فما كان على الحكومة إلا أن تلتزم مرة ثانية ببنود الاتفاق المذكورومحاولة تجديد بعضخا دون احترام للموظفين والعاملين ونقاباتهم . ومما سيزيد الطين بلة، تلك الانقسامات التي طرأت على بعض المركزيات النقابية، إما لسبب تافه كالصراع حول مراكز المسؤولية بين الأشخاص، وإما لأسباب سياسية، عنوانها الانتماء الحزبي من عدمه، وكان خلق العديد من المركزيات النقابية الجديدة كالاتحاد الوطني للشغل بالمغرب التابع لحزب العدالة والتنمية، والكنفدرالية الوطنية للشغل التابعة لاتحاد الحركات، قد زاد الهوة والانقسام وحيرة الشغيلة في الانتماء وتحديد المواقف من كل نقابة على حدة ومدى شفافية ومصداقية كل واحدة، خاصة إذا كان الحزب المؤسس للنقابة ممثلا داخل الحكومة . يبقى بعد كل هذا الذي ذكرناه حول الركود النقابي والتماطل في المطالبة بالحقوق المشروعة لكل فئات المجتمع المغربي، أن الإنجازات التي تحققت خلال هذه العقود من الزمن كانت وراءها دماء وتضحيات جسام، وهو فعل لازم على كل حر ومطالب بحقه. فلماذا لا تفكر نقاباتنا في مشروع حضاري مغربي نهضوي في أفق قرن كامل من الزمن: القرن الواحد والعشرين؟ . انطلاقا من هذا التساؤل يمكننا أن ننظر إلى المستقبل المغربي بتفاؤل عظيم، من دون أن نستحضر الأخطاء والسلبيات التي وقعت فيها التغييرات التي طرأت على كل الميادين خلال القرن العشرين ومنذ الاستقلال. كل هذا يجعلنا نراجع مراجعة نقدية للمشروع النهضوي الحداثي الذي يطالب به بعض الناس من مجتمعنا المغربي والذي لا يخلو من سلبيات وتراجعات على المستوى السياسي والفكري، وبالتالي يدفعنا هذا التفكير للانطلاق في مشروعنا النهضوي الحداثي، بجعل التعليم هو القاطرة الأولى التي تقود هذا الإصلاح ....