لم يكن عيد الأضحي في صبانا يقتصر على يومين أو ثلاثة، أو حتى أربعة أيام. و لم يكن يقتصر على شراء الأضحية و ذبحها و أكلها. و لم تكن الفرحة مشتركة بين الأسرة و العائلة فقط. بل كان لدينا موسما لعيد الأضحى، و كنا نستعد له كما لا نستعد لغيره من الأعياد، و طبعاً كما لا نستعد للدخول المدرسي. كان جو العيد في الحي و المدينة أكبر منه داخل البيت. و بما أن العيد هو للأطفال كما كان يتحجج بعض الآباء، فإننا كنا نقتسم بعضا من المهام مع آبائنا و أمهاتنا، و هذا طبعا يبدأ قبل اقتراب الموعد بأسابيع، أي منذ أن تقرر الأم إعادة تبليط البيت، و الاستعداد ل" العْوَاشْرْ "، فنحن من كنا نتكلف بالصّباغ، و ملازمته، و مساعدته في أداء مهامه، و السهر على توفير متطلباته. حديثه إلينا في غياب غيرنا طوال فترة عمله، عن حياته، و مساره المهني، و نوادره، و طرائفه، و بطولاته في عالم الصباغة التي لا يضاهيه فيها غيره، كان يجعلنا ننسى أننا حديثي السن، بل كان يوحي لنا أننا صرنا في مستوى الحديث و النقاش مع الكبار، و هذا ما كان يدفعنا إلى بعض الفضول الذي كان يتسبب لنا في شد الأذن أحيانا، أو الاكتفاء بتوبيخ من الأم أو الأب أحيانا أخرى، كملامسة الجدران و الصباغة لا زالت طرية، او زيادة الماء أو اللون في سطل الصباغة، أو استغفال الصباغ و محاولة تقليده مع ما يترتب عن ذلك من تلطيخ لملابسنا، و تشويه لعمله... تنقضي مرحلة الصباغة، و تأتي مرحلة تصبين الزرابي، هذه أيضا كانت من بين مهامنا، فرصة لممارسة الشغب المحمود و المقبول، الصابون ، الشمس، السراويل القصيرة، و خراطيم المياه التي تخرج عن السيطرة عمدا من يد الأمهات فتبللنا، و تنسينا حرارة الجو، ، ليتحول السطح إلى أشبه بمسبح، و نحن فوق الزرابي نستحم. و الجميل في هذا كله، كانت الجارات و كأنهن متواعدات على القيام بنفس العمل في نفس الوقت، فيينما الصغار منشغلون في تصبين الزرابي، كانت الأمهات تغتنمن الفرصة لتبادل أطراف الحديث مع بعضهن البعض، حول لوازم العيد، و ماذا اقتنين، و بِكَم، و ماذا ينقصهن... كانت أجواء ممتعة حقا، يوم كان الناس يرفعون شعار" جارك القريب خير من أخيك البعيد" قبل أن يصير في زمننا هذا " رُدْ بالك من جيرانك". و تأتي مرحلة التسوق، و الملاحظ فيها أن مستلزمات طهي الكبش تسبقه إلى البيت، كل ما يحتاجة العيد موجود بالآسواق، من السكين إلى أكياس القمامة. مصاحبة الأم إلى السوق، و حمل أكياس المقتنيات الثقيلة، هي أيضا من المهام التي لم يكن من السهل التهرب منها. الازدحام، صراخ البائعين، و كثرة الدوران بالسوق بحثا عن أجود و أرخص أنواع الفحم و البصل و التوابل...أمور لم نكن نتحملها، خصوصا إذا صادفتنا إحدى الجارات، و استوقفتنا لتسأل و تستفسر و تحكي، فتضيع علينا فرصة العودة بسرعة لنشهد كل كبش يدخل الحي. كم كان متعبا ذلك اليوم، إلا أنه كان أهون علينا من اليوم الذي كنا ننتظر فيه عودة الأب من سوق الماشية و هو يمسك بحبل الكبش في يده، كم كان الانتظار طويلا و صعبا، لم نكن نستطيع المكوث في البيت فترة إلى و نقفز إلى الخارج عند سماع صوة فرامل سيارة نحسب أبانا فيها و الكبش بصحبته، نعد الساعات، بل الدقائق، و نسأل أمنا، كم سيتأخر أبي؟ متى سيعود؟... لحسن الحظ لم يكن الهاتف المحمول حينها موجودا، و إلا لكان والدنا قد رماه، أو كسره فوق رؤوسنا حين عودته. ثم يأتي الفرج بعد طول الترقب بقدوم الخروف، و أطفال الحي ملتفون حوله، يحاولون مقارنته بخرفانهم، ما الأكبر؟ و ما الأقرن؟ قبل أن يقرروا في الأمر و يحسموا، عقب اجتماعهم المعتاد في زاوية من زوايا الحي، ليخبرونني بعد انتهائي من ربط الكبش مع والدي، و تقريب آنية الماء منه و رزمة التبن، أن خروفنا يأتي في المرتبة كذا بعد خروف فلان و فلان و فلان...و هل للعيد حلاوة دون هكذا أمور؟ طبعاً لا، لكن للأسف ظهر اليوم من يريد التشويش على كل هذه الأجواء الاحتفالية الفريدة بين الأمم، التي يفرح بها الصغار قبل الكبار، و يطالبون بالتخلي عن طقس ذبح الأضحية، ويريدون عيدا احتفاليا خالياً من الدماء، أي خاليا من الأكباش!، تسود فيه قيم المحبة، لا يسمح للأطفال برؤية انهار الدماء ويألفوها. و قيام الأسر في يوم العيد بالسفر و الإقامة بالفنادق رفقة الأقارب و الأصدقاء. مطالبين الدولة بوضع حد لما يسمونها مجزرة عيد الأضحى، و بناء مجتمع حداثي يحتفل دون سفك دماء الأكباش!. يا سبحان الله، و هل هناك قيم محبة و تكافل و تضامن أكبر من التي عشناها بين ذوينا و جيراننا طيلة احتفالاتنا بعيد الأضحى عدد سنين أعمارنا؟. ألفنا دماء الأكباش نعم، لكننا لم نألف دماء بني البشر و هي تُسفك بين بعضهم البعض. و عن أي مجتمع حداثي يتحدث هؤلاء؟ ترى هل امتنع الغرب و لنفس الأسباب عن ذبح الدِّيَكة الرومية و الأرانب، احتفالا بأعياد ميلاد المسيح"Nochebuena" , و رأس السنة الميلادية؟ لماذا يحتفل هؤلاء الحداثيون مع الغرب و بكل طقوسه، و يريدون لنا أن نكون حداثيين أكثر من الحداثة بعينها؟ المهم، سأترككم رفقة الجيران لتباركون لنا كبش العيد، فقد جرت العادة أن يدخل الجيران كل منزل دخله الكبش ليباركونه لأصحابه، و يسألون عن ثمنه و عمره و فصيلته...في انتظار اليوم الموعود، يوم النحر، و احتفالات من نوع آخر، و مهام أخرى سنقوم بها، طبعاً نحن الصغار.