ليس عصيّا على كلّ من يتابع الأحداث عن كثب أن يجد تفسيرا لحملات النّظام المسعورة على كلّ من يعارض جوهر النظام القمعي و يفضح بنيته السلطوية و يقفز على شعاراته المزيّفة. فالدّولة العميقة أو دولة الدّولة(1) أو ما يصطلح عليه بالمخزن لن يرضى بالقبول بشروط اللعبة السياسية و الحقوق المدنية كما هو متعارف عليها عند النّظم الدّيمقراطية. إذ أنّ كلّ مؤسّسات النّظام التي تخوّل لها الدّساتير المتعاقبة صلاحيّات مبهمة لم تكن وليدة قناعات عند من يهمّهم الأمر أو رغبة صادقة في مأسسة السّلطة و الخضوع للنّظريّات السّياسية الحديثة في تنظيم الحقل السياسي و ضمان آليات شفّافة للتسييرو التّدبير. و إنّما كانت منذ البداية و منذ فجر 'الإستقلال' مجرّد واجهات لاحتواء الرأي الآخر و تدجينه و قولبته على أنموذج سلطوي حداثي اسمه 'الإستثناء المغربي'. لذلك نجد اليوم و بالرّغم من كلّ الأموال الطّائلة التي تهرق في محافل العالم من أجل التسويق لصورة مغلوطة عن بلد يرزح تحت واقع الإستبداد و الإستفراد و من أجل التخفيف من حدّة التقارير السنوية لمنظمات الحقوق و الحريّات العالمية و للإستفادة من المزيد من الدّيون التي تنهب من قبل دهاقنة النّظام و ترهن مستقبل ملايين المغاربة لأجيال لا يعلم عددها إلاّ الله. نجد النّظام لم يفلح بعد في إقناع أقوى حلفائه و يتخبّط في كلّ مرّة يحتاج فيها دعم المنتظم الدّولي من أجل الإنتصار لسياساته و حروبه الوهمية مع أنظمة لا تقلّ عنه استبدادا. حتى و بعد أن رأى رأي العين عروشا لطغاة أثخنوا في القمع و النّهب تهوي و أنظمة تنتهج سياسة الخوف و القمع والزعيم الأوّل الملهم الذي تعلّق صوره بالإكراه على كلّ الحيطان تخرّ أمام إصرار الشارع و صموده. لم يستطع أن يتعظ بل اختبأ لبعض الوقت و أدار معركته مع رياح الربيع من قمقمه من خلال نخب كان يدّخرها لمثل هاته الأيّام. استطاع النّظام بمكره و خبثه أن يستميل بعضا من قوى الشارع الحيّة و يقنعها بتوبته المكذوبة و يمنّيها بجدّية انخراطه في مسلسل الإصلاح و التغيير وفق شروط سيهيئ لها دستورا لم تخرج نصوصه عن سنّة التأويل المفتوح على كلّ التنزيلات بإشراف منه و بصياغة من كبار مستشاريه و حلفائه و بإقصاء تامّ لكلّ من أصرّ على ضمانات حقيقية لمعالم التوبة المزعومة. فكان له ما أراد و استطاع أن يرجئ غضبة الشارع إلى أجل يراه بعيدا و تكاد تجزم كلّ الدّراسات المستقلّة على أزوفه. فأضاف إلى رصيده تناوبا ثانيا بنكهة إسلامية خطّط مسبقا لإفشالها عن طريق حكومة هجينة مبلقنة ما يفرّق عناصرها هو أكثر ممّا يجمع بينهم مقطوعة الجناح لا يحقّ لها أن تبثّ إلاّ في المجالات التي أعلنت مسبقاٌ إفلاسها. فقد كان يعلم منذ الوهلة الأولى أنّ ضيوفه الجدد سرعان ما سيشتعل فضولهم لتسليط الضوء على خبايا الدّولة العميقة و مكامن الثروة و مافيا الإعلام و هو ما يعتبر في عرف النّظام خطّاً أحمرا و مناطق محظورة لا يسمح لأحد بالإقتراب منها فسيّج حكومتهم بحكومة ظلّ تستبق كلّ فعل من شأنه أن يرفع من مقام حكومة الواجهة على حساب رمز السلطة و جعل على كلّ وزارة قد تكون مصدرا للإزعاج وزيرا من مريديه يضمن ولاءه. فانطلقت سفينة الإستثناء على خطى سابقيها بشعارات رنّانة و شبح للأزمة لم يفارق المغرب كعادته منذ أوّل حكومة و شارع يغلي تحت وطأة البطالة و الفقر و الأزمات الإجتماعية و شعور بالإحباط و الحكرة و التهميش. لذلك انطلقت شرارة الإحتجاجات بعيد تنصيب الحكومة و هو ما جابتهه السلطة بقمع شديد إمعانا في التنكيل بمعارضيها و ترسيخا لهيبة المخزن المفقودة أيّام الحراك و كذلك إمعانا في إحراج الوافدين الجدد و ترويضهم على مبادئ الحكامة المخزنية و فصلهم عن عمقهم الشعبي حتّى لا تبقى إلاّ صورة الرّمز الوحيد المنقذ من الأزمات لا يزاحمه فيها حزب أو جماعة. إلاّ أنّ المتغير الجديد الذي ينذر بقلب المشهد رأسا على عقب هو تفلّت الإعلام و خروجه من هيمنة المخزن و ارتكازه على تقنيات للتواصل و الإخبار من خارج استديوهات النّظام البئيسة و جرائده الصفراء ممّا جعله حاملا لوعي جديد يفضح كلّ هاته الألاعيب البائدة و يوحّد بين مختلف الرّؤى التغييرية على ضرورة إسقاط الإستبداد و أنّ أصل الفساد الإستفراد و كون أنّ معضلة النّظام تتجاوز الأحزاب و الحكومات, فصرف الجهود في مقارعات جوفاء بين الزعماء و تأليب الأتباع ضد حزب أو وزير هو تبديد للجهود و تغليط للوعي الذي هو أساس معادلة التغيير.