كثيرا ما سمعنا عن سنوات الجوع التي عانت منها بعض المناطق بالمغرب، سنوات اختفى فيها الخبز، و جاع الناس و مرضوا وكادوا يُفنون، لولا المساعدات التي أتت من بعض الدول الغربية، و على رأسها أمريكا. سنوات عجاف هاجر بسببها الناس أراضيهم و عيالهم في سبيل البحث عن لقمة تقيهم شر الموت. هذه ذكريات يرويها تاريخ المغرب في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، و كذا منتصف الأربعينات من القرن الماضي، و التي لا زالت صورها تحكى على لسان بعض من عاشوا الفترة و يتذكرونها جيدا، حيث يروي أحدهم أن عمليات تهريب الخبز و السكر كانت تنشط انطلاقا من منطقة طنجة الدولية التي كان كل شيء فيها متوفرا، في اتجاه المناطق الخاضعة لنفوذ إسبانيا، التي كانت قد خرجت للتو من الحرب الأهلية و ما نتج عنها من تدهور على المستوى المعيشي لأبنائها و أبناء مستعمراتها، و هي الفترة التي أطلق فيها على الإسبانين المقيمين بالمغرب ب " بُو رُقْعَة " بسبب ترقيعاتهم لملابسهم. و كانت نقطة التفتيش في حدود ما يسمى الآن بساحة الجامعة العربية ( رياض تطوان )، و بينما كان شخص يهم بتهريب ثمان خبزات من الحجم الكبير، إذ تم اكتشاف الأمر من قبل أحد المفتشين – الجمارك- و تم منعه من إخراجها، فأقسم الرجل أن لا يدع رزقه يسلب منه، فجلس يلتهم الخبز واحدة تلوى الأخرى حتى انتهى منها كلها، و غادر بعدها و هو يردد " خبزي في بطني فامنعوني الآن من تهريبه". روايات كثيرة تحكى عن مآسي أعوام الجوع التي كانت لها أسباب كثيرة كالجفاف، و الأوبئة الذي قضت على رؤوس الماشية، ثم الجراد. كما كانت لها نتائج و خيمة، سواء على مستوى اقتصاد البلاد، الذي لم يكن أحد يعرف عنه شيء إلا المقربين من دواليب الحكم، و بعض العائلات الفاسية التي استفادت من تلك المآسي باحتكارها للحبوب و المتاجرة فيها، أو على المستوى الاجتماعي، لما سببته من هجرة نحو المدن، و ما تبعها من انتشار للبغاء و الجريمة بكل أنواعها، و كل ذلك في سبيل "كِسرة " خبز. إن ما دفعتي لتذكر هذه المآسي كوني وقفت على بعض من صور الجوع، و إن لم تكن بتلك الحدة التي تروى على مسامعنا، إلا أنها أدهشتني و جعلتني أخشى من يوم يختفي فيه الخبر و يجوع الناس. ففي مساء اليوم الموالي لعيد الفطر، رأيت الناس و قد تجمعوا في طوابير طويلة عريضة على أصحاب الأكلات الخفيفة و الثقيلة، و شاهدت بأم عيني كيف كان الصراع على أشده من أجل الحصول على وجبة ، خِلت في أول الأمر أن المسألة تتعلق فقط بأصحاب " الشوارما " بما أن الناس كانوا في رمضان، و قد اشتهوا بعض الوجبات التي تنجز خارج البيت، لكن الأمر لم يكن كذلك، بل كل المطاعم و المقاهي و محلات البيتزا ...بدون استثناء كانت مملوءة عن آخرها، و كأن اليوم هو آخر أيام الأكل. لم أترك مطعما واحدا وسط المدينة إلا و تفقدته، و كانت الصورة نفسها، الواقفون أكثر من الجالسين، و الطوابير وصلت إلى الأرصفة خارج المحلات، و كذلك كان حال المخبزات، الازدحام على الخبز، و كأن بدونه لا تبلع لقمة، و لا يسد رمق. فاسترجعت حينها كل ما يردد حول أزمة الحبوب العالمية، و رفض أمريكا بيع قمحها لنا، و القرار المنتظر من روسيا بوقف تصدير محصولها الزراعي لأسباب بيئية و سياسية أيضا، و أن مخزوننا من الحبوب لا يتعدى ثلاثة أو أربعة أشهر، فانتابني خوف شديد كوني أحسست أننا مقبلون على أزمة غذائية إن لم يتم حل مشكل تأمين احتياج المغاربة من الخبز، و الكل يعلم قيمة الخبز عند المغاربة، فإذا كان الناس في باقي الدول و خصوصا الغربية يعتبرون الخبز عنصرا مكملا فقط و ليس ضروريا فوق المائدة، فإنه عند المغاربة يعتبر وجبة رئيسية و عروس المائدة كلها، و بدونه لا يمكن للوجبات أن تكتمل. و لا داعي لأن يفتي علينا أحد و يقول أن المغاربة لا يفقهون شيئا عن ثقافة الأكل، و لا يحسنون نظامهم الغذائي، كونهم يبالغون في تناول الخبز، يجمعون في غالب الأحيان بينه وبين بعض الوجبات التي تحتوي على نفس المكونات و يعطينا كثيرا من الأمثلة. لأننا نعلم جيدا المستوى المعيشي للمغاربة، و الذين يعتمدون على الخبر كمادة أساسية لإشباع بطونهم و بطون عيالهم، ليس لأنهم لا يفهمون في كيفية تنظيم أكلهم، بل لأن ظروفهم المادية تفرض عليهم ذلك، فالمغربي يشتري الخضر و الفواكه بثلاثة أو أربعة أضعاف الثمن الذي يقتنيها بها غيرة من جيرانه الشماليين، و اللحم و الدجاج بالضعف، و الحوت أيضا -رغم كونهم كانوا يصطادونه في مياهنا-، في الوقت الذي يتقاضى خُمُس أجرهم، فكيف يمكن له أن يسايرهم في اعتبارهم للخبز ثانويا في الأكل؟ و الناس عندنا يعتمدون على قاعدة " الخبز أولاً " فمنهم من يعيش على الخبز الحافي، أو الخبز و الشاي، أو الخبز و البصل، أو الخبز و " الكَالْيِينْطِي" - لمن يعرفه -، و هذا هو واقعنا و حالنا مع الخبز، و هذا ما يجعلنا نتسائل عن مصير هذا الشعب إذا صحت التوقعات و صرنا أمام أزمة الحبوب ؟ و نحن من عشنا نتوهم أننا في بلد فلاحي، لكن يبدو أن فلاحتنا تطورت، و صار عندنا مزارعون من نوع أخر، يعتمدون على زراعة الأبراج، و العمارات، و الفيلات، و اغتيال كل ما هو حقل أو مزرعة، في الوقت الذي ازدهرت فيه فلاحة جيراننا، بفضل سواعد أبنائنا، ممن باعوا هكتارات من أراضيهم، و لجأوا للاشتغال في مساحات صغيرة من أراضي غيرهم بالضفة الأخرى، فكان الفرق، و الفرق واضح.