برامج الأحزاب السياسية المقدمة للرأي العام قبل دخول الحكومة تكون نعما سماوية تبشر الجميع بجنة لا ظلم فيها و لا خصاص، لكن عندما توزع الحقائب و يأتي وقت الجد تصبح الأمور ضبابا و غبارا، و تتلاشا الأحلام تدريجيا فإذا الحصيلة الحكومية أعمال روتينية و تدبير الأمر الواقع بالقناعة و الصبر و ما قسم الله. لا نقصد هنا زعماء أحزاب المعارضة فهؤلاء لهم عذرهم أمام الناخبين و القواعد، تتحول مهامهم من التبشير و بيع الوعود إلى اقتناص كل الفرص للتشنيع بالحكومة و تبخيس منجزاتها و تكبير الهفوات و تضخيم الأخطاء. نقصد بأمر انحدار الشعارات نحو لا شيء، الأحزاب التي تتسلم المهام الحكومية و تتقاسم الحقائب و تنتشي بالسلطة و نشوة الحكم. هذه الأحزاب ذات البرامج الواعدة و التي لا يمكن لأي عاقل إنكار جاذبيتها و تأثيرها في النفوس، تعرف جيدا أن ما يطبق من برامج بعيد كل البعد عما يطرح أثناء الحملات الدعائية، لكنها و بعقلية و صولية تستثمر مشاعر المواطنين لاقتناص الأصوات و تحقيق المكاسب و المواقع، فالصراع السياسي و السياسة عموما لا مكان فيها للأخلاق، و الغاية تبرر الوسيلة، و لكل زمان حديث . السياسة حربائية من جهة كونها تلاعب بالألفاظ و استغلال للظروف و الانقلاب على الوعود بذريعة الظروف. السبب الأساسي في الانقلاب على الوعود و البرامج هو آلية التحالف المفروضة على كل حزب سياسي يريد الوصول إلى الحكومة. فالحكومة تمنح للحزب أو التحالف الذي يحوز على أغلبية مقاعد البرلمان، و من هنا يبدأ مسلسل التنازل و الإجهاز على الوعود و البرامج. فالتحالف يقتضي الدخول في مفاوضات و مساومات بين الأحزاب السياسية، و هذه الأخيرة تساوم بعدد المقاعد المحصل عليها و تطالب بحصتها من عدد الحقائب الوزارية، فأول شرخ يصيب برنامج الحزب هو أن التشكيلة الحكومية لا تسمح له إلا بعدد من الحقائب يوازي عدد مقاعد البرلمان. و الحزب السياسي يفقد أهم أداة لترجمة برامجه. بعد الاتفاق على عدد الحقائب المحصل عليها يأتي دور البرنامج الحكومي. فهو برنامج الأحزاب المكونة للتحالف و لا يمكن لأي حزب أن يحلم بفرض كل آراءه ونواياه و ما وعد به. إن التحالف يعني التخلي المسبق على مجموعة من البرامج و الاستعداد مقابل ذلك لقبول ما تفرضه الأطراف الأخرى المتحالفة. التحالف يعني نسيان تلك اللهجة التي يخاطب بها الحزب السياسي أنصاره و المتعاطفين معه. التحالف يعني طلاق مرحلة كاملة بشعاراتها و أحلامها و حماستها، و بداية مرحلة اخرى لا يربطها بالمرحلة السابقة إلا عدد الأصوات التي تسجل لصالح الحزب. سياسة التحالف تفرض على الحزب السياسي التخلي على كثير من مطالبه و برامجه، و الاكتفاء بالحد الأدنى مما لا خلاف عليه بين باقي مكونات التحالف، لأجل هذا يكون قادة الأحزاب السياسية على درجة كبير من المرونة و التلون و الرخاوة أثناء المفاوضات و صياغة برنامج الحكومة، عكس حالة الصرامة و التحدي التي يقابلون بها الرأي العام أوقات الدعاية و مناسبات حصد الأصوات قبل الانتخابات. بعد التصويت على برنامج الحكومة، ليس الحزب، يكون كل وزير محتاجا إلى مساعدة الجهاز الإداري الذي يرأسه، أي لا مناص له من تحالف من نوع خاص مع الموظفين، إذ لا يمكن لأي وزير القفز على ما يوفره هؤلاء من قوة مجسدة في قدرتهم على التنفيذ و التأثير في القرار بمالهم من معلومات و إحصائيات و دراسات حاسمة، و هذا التحالف الداخلي يجعل كل وزير تحت تأثير جهازه و مرؤوسيه خصوصا ذوي المواقع الهامة و الحساسة. على أرض الواقع و تطبيقا لما سبق يمكن القول بأن سياسة التحالف التي فرضت على حزب الإسلاميين، أفرغت جميع شعاراته من مضامينها بالتدريج. فهو تنازل حينما احتاج لأحزاب سياسية أخرى، و تنازل حين صياغة البرنامج الحكومي، و تنازل حين اصطدم وزراءه بييروقراطية عاتية و مقاومات معششة في كل قطاع و مؤسسة. فالبرنامج الحكومي مثل أي برنامج سابق و لا اختلاف إلا في بعض التفاصيل، كما أن شعارات مكافحة الفساد تكسرت على صخور بعضها ظاهر و أكثرها خفي مما دفع وزراء الحزب الإسلامي إلى التراجع. السياسة تعلم الأحزاب السياسية الاستعداد الدائم للجديد و المفاجئ و التلون مع كل جديد و تبرير كل تراجع للخروج أمام الرأي العام بمظهر العاقل و الواقعي. إن زعيم الإسلاميين ربما كان على علم مسبق باستحالة ما و عد به المواطنين، و لأجل ذلك ظل يطالب بتحالف خاص بينه و بين رجال القصر لكي تمر الأمور بخير. هذا التحالف كان من نتائجه تخلي الزعيم الإسلامي عن كثير من اختصاصاته الدستورية. حاجته إلى العون و المساعدة أدت به إلى الرجوع إلى الحلف درجات مقارنة مع قائد حكومة التناوب لسنة 1998. في عالم السياسة لا شيء مجاني أو لوجه الله، كل طلب لعون طرف آخر له مقابل، و المقابل هو المبادئ و التنازلات. السياسي له استعداد دائم للتنازل يوازيه استعداد دائم للتبرير، السياسي البارع هو الذي يجمع بين استعداده للتنازل و مهارته في تبرير تنازله. قمة التنازلات ما نشاهده اليوم من تحالفات غريبة الأطوار تجمع بين إسلاميين و رفاق ورثة الشيوعيين، بين هؤلاء و بين آخرين من اليمين، الدرس الأبسط هو أن الايديولوجية لا توجد إلا في الأوراق المذهبية لكل حزب. اليمين و اليسار و إخوة الإسلام على قلب واحد- ظاهريا- لا يجمعهم غير الخير و الإحسان. حاجة الأحزاب السياسية إلى التحالفات تجعل من الصعب بل من المستحيل تصديق أي حزب سياسي في ما يبشر به مع إطلالة كل موعد انتخابي، و تجعل جميع المبادئ و البرامج مجرد نوايا لا تصلح إلا لاصطياد الدعم الشعبي و اقتناص الأصوات. إن إسناد قيادة الحكومة لأي حزب سياسي لا يعني إلا حاجة النظام السياسي لتزويق وجه ديمقراطية شكلية ظاهرها تداول مكونات الساحة السياسية على الحكم ، و باطنها تدبير الأمور على عادتها كما هي و الحفاظ على الأمر الواقع مع إفساح المجال لبعض التفاصيل المتلونة و التي لا تصلح إلا للتضخيم و الاستهلاك الإعلاميين. لقد شجع القصر منذ الاستقلال على تشرذم الأحزاب و تفجيرها وبلقنة الخريجة، و ها هو يجني الثمار، إذ لا تمايز و لا تباين و لا حدود واضحة بين اليمين و اليسار و الوسط إلا أمام أجهزة الإعلام.