في أوائل التسعينات من القرن الماضي، كانت مدن الشمال المغربي تعيش على وقع تحول غير مسبوق. فجأة، بات التلفاز جزءًا أساسيا من يوميات الأسر، ليس فقط في بيوت الميسورين، بل حتى في منازل الطبقات الشعبية، التي وجدت في "لانتينا" (اللاقط الهوائي) جسرًا يصلها بعالم أكثر رحابة، حيث البرامج المتنوعة والمسلسلات المشوقة التي لم تكن القناة المغربية الوحيدة قادرة على تقديمها. لكن هذا التغيير لم يكن محض صدفة، فقد تزامن مع تحرير القطاع السمعي البصري في إسبانيا، الذي سمح بظهور العديد من القنوات التلفزيونية الجديدة، الخاصة والعامة، ما أدى إلى تنوع غير مسبوق في المحتوى الإعلامي. وبفضل قوة البث، كانت هذه القنوات تصل بوضوح إلى شمال المغرب، حيث وجد سكان طنجة وتطوان وشفشاون والحسيمة وسواحلها أنفسهم أمام عرض تلفزيوني متكامل، يضاهي ما يتابعه الإسبان أنفسهم. فكانت القناة الإسبانية الأولى والخامسة ملاذا للباحثين عن الأخبار، بينما كانت القناة الثانية مبحث عشاق الطبيعة والوثائقيات وغيرها قبل ظهور القنوات المتخصصة.
وفي نفس السياق، كانت القنوات الإسبانية تعرض برامج ذات طابع اجتماعي وإنساني ومنها برنامج عن حالات الاختفاء بعنوان Quien Sabe Donde ، وبرنامج آخر عن حالات تدخل بطولية لإنقاذ أشخاص في حالة خطر ويحمل عنوان valor y coraje. يستعيد حسن، 44 سنة، تفاصيل تلك الفترة قائلا: "كنا نقضي ساعات ونحن نحاول ضبط اتجاه اللانتينا فوق الأسطح، بحثًا عن إشارة قوية من القنوات الإسبانية.". ويضيف هذا الاربعيني، ان "لحظة التقاط البث بوضوح أشبه بالانتصار، خصوصًا عندما يبدأ بث الدوري الإسباني على 'البريميرا' و'السيكوندا'. لم نكن بحاجة لاشتراكات ولا أجهزة معقدة، فقط لاقط هوائي وعدد قليل من القنوات، لكنها كانت كافية لتفتح أمامنا عوالم جديدة.". غير أن رياضة كرة القدم لم تكن وحدها ما يجذب أنظار الشباب عبر مباريات الليغا والكلاسيكيو وبرامج من قبيل Solo Goles و Dia Despues، فقد شكلت القنوات الإسبانية نافذة لعشاق السينما، كما يتذكر رشيد، 42 سنة: "كنا نحفظ مواعيد عرض الأفلام الأمريكية على "أنتينا تريس" عن ظهر قلب التي للإشارة حظيت بإعجاب المشاهدين لتميزها في تقديم التقارير الإخبارية وبثها أفلام فنون الحرب مساء كل يوم أربعاء، ونخبر بعضنا البعض حتى لا يفوتنا أي شيء". ويضيف المتحدث بحنين كبير "تخيل، في الوقت الذي كانت فيه القناة المغربية تعرض أفلاما قديمة من "خردة هوليوود"، كنا نشاهد أحدث إنتاجات السينما العالمية بجودة لم نكن نحلم بها!" أما الأطفال، فقد كان لهم نصيب من هذا العالم الجديد، إذ ارتبطت طفولتهم بأسماء مثل "أوليفر إي بينجي" (الكابتن ماجد لاحقًا)، و"باور رينجرز"، وسلسلة الأكشن "شرطة تكساس"، التي كانت تُعرف بين الصغار باسم "التشيكنوريس" نسبةً إلى بطلها تشاك نوريس؛ ثم هناك مسلسل الزوار آكلي الفئران. "كلما سمعت موسيقى بداية مسلسل Walker texas ranger لبطل فنون الحرب "تشاك نوريس" تعود بي الذاكرة إلى تلك الأيام، حيث كنا نتابعه بشغف، ثم هناك مسلسل السيارة الخارقة Coche fantastico، حيث نحاول تقليد حركات الأبطال في الحي"، يقول مراد، 42 سنة، ضاحكًا. لم يكن هذا التأثير مقتصرا على فئة الشباب والأطفال، بل امتد ليشمل حتى العائلات التي وجدت في البرامج الإسبانية ومنها برنامج المسابقات precio justo (الثمن الصحيح) على القناة الأولى الإسبانية Tve1، بديلا أكثر جاذبية مقارنة بالقناة المغربية الوحيدة، التي كانت محدودة المحتوى وضعيفة الجودة وبثها محدود من حيث عدد الساعات. واليوم، بعد أكثر من ثلاثة عقود، لا يزال أبناء منطقة شمال المغرب يتذكرون تلك المرحلة بحنين خاص، حيث كان التلفاز نافذتهم الأولى على العالم، قبل أن يأتي عصر الإنترنت ليغير كل شيء. ورغم تعدد الخيارات اليوم، إلا أن ذكريات التسعينات تبقى محفورة في وجدان جيل كامل، عاش زمنًا كان فيه البحث عن قناة جديدة مغامرة، وضبط إشارة بثها انتصارا صغيرًا يُحتفل به في كل بيت.