كان حسن مسلم يجلس بالقرب من آخرين أمام مقهى “باب الفحص” في طنجة، يحمل سنّارته وخيوطاً من الصوف، متحايلاً على أوقات فراغه وسنوات ما بعد التقاعد، هو الذي عمل صيّاداً على متن قوارب مختلفة. اليوم، يبلغ مسلم من العمر 62 عاماً، ويمضي أوقاته داخل البيت أو خارجه، وهو يحوك طرابيش شتوية وصيفيّة، وهي صنعة يدوية فردية تعلّمها بالملاحظة والتطبيق، فتحولّ الأمر إلى إدمان. وتراه دائماً وهو يصنع الطرابيش، من دون أن ينتبه إلى الوقت. يقول مسلم ل “العربي الجديد”: “رأيت رجلاً في البادية قبل اثني عشر عاماً، يحمل عودين من الخشب ويحوك بهما الصوف. وحين عدت إلى طنجة، بدأت بممارسة هذه الهواية”. يضيف: “واجهت صعوبة في صناعة القبعتين الأولى والثانية، لكنّ الثالثة كانت تجربة جيدة. بداية، اعتمدت على طريقة حسابية في عدّ الغرز، والآن أصبح الأمر أكثر سهولة، وصرت أحوك ولو كنت نعساً، أو خلال مشاهدتي التلفزيون، قبل أن تلفت زوجتي نظري إلى وجوب الانتباه إلى القبعات”. “الصنارة والسنّارة متشابهتان، الأولى تصيد لقمة عيش وتحتاج إلى صبر والبقاء في عرض البحر ليالي عدة، والثانية تحوك لقمة العيش وتحتاج إلى وقت وسعة الصدر. ومن يضيق به الخاطر سريعاً ليس له متسع مع السنارة الخفيفة”. هذه الحكمة تعلّمها مسلم ونقلها إلى ابنته المتزوجة، التي بدأت أيضاً تحوك “الكروشيه”. لدى مسلم أربعة أبناء، وهو يعيش في حي السقاية في مدينة طنجة، شمالي المغرب. تقاعد من مهنته ويتقاضى اليوم راتباً لا يتجاوز ألف درهم. ويؤكد أنّه لا يودّ العودة إلى البحر مرّة أخرى على الرغم من الراتب الهزيل جداً. يقول: “الداخل إلى البحر مفقود والخارج منه مولود”، بمعنى أنّ عمله صيّاداً كان ينطوي على خطر كبير، كذلك فإنّ نوعية العمل متعبة جداً. ويشرح: “كنّا نذهب ليالي عدّة وأحياناً أسبوعاً، ونستقل قارباً مع أربعة أشخاص أو ستة أو ثمانية. لكنّني عندما تقاعدت، لم أستمر في هذا العمل حتى لا أخسر راتب التقاعد، كذلك لم تعد صحتي البدنية جيدة لأعود بقوة إلى البحر”. ويلفت إلى أنّ “من يرغب في العودة يمكن أن يحصل على تصريح مؤقت للعمل في البحر”. حين التقى “العربي الجديد” مسلم كان يجلس منتظراً أمام مقهى “الفحص” الذي كان يسمّى قديماً مقهى “المحطة”، حيث كان كثيرون يعبرون إلى أوروبا بعدما يتناولون قهوتهم. كان يضع قبعاته في كيس بلاستيكي للتبضّع، ولا يتوقف عن حياكة “الكروشيه”. يخبر أنّه يشتري الصوف في مقابل ثمانين درهم او 120 درهم، ويراقب دائماً رؤوس المشاة المارّين في السوق. فإن لمح أحدهم مرتدياً قبعة صوفية بألوان وزخارف مغايرة، يحاول أن يصنع ما هو شبيهاً لها، لافتاً إلى أنّ صنعته تعتمد على الملاحظة. ويبيع الطربوش في مقابل اربعين درهما، إذ إنّه لا يمكنه رفع السعر كثيراً، خصوصاً أنّ موسم الشتاء انتهى. مع ذلك، يستمر في الحياكة حتى في الصيف، فبعض الرجال المسنّين لا يخلعون قبعاتهم لا صيفاً ولا شتاءً. يضيف أنّ موسم الطرابيش الخفيفة على الأبواب، على الرغم من أنّ الطلب عليها قليل.ويشير مسلم إلى أنّ هذه الصنعة اليدوية يتقنها الرجال والنساء في طنجة، ولا فرق بينهما إلّا في بعض أنواع الطرز أو الزخارف التي تعد النساء والفتيات أكثر اتقاناً لها. ويشير إلى أنّ “ابنتي تعلّمت حياكة الكروشيه وهي جالسة إلى جانبي، وأتولى شخصياً بيع منتجاتها”. لكنّ الفرق يبدو واضحاً بين القبعات التي تصنعها ابنته والقبعات التي يصنعها هو. فابنته تتقن تطريزاً أكثر نعومة وتنتج قبعات تليق برؤوس الأطفال، بينما يصنع الوالد قبعات تليق بالشيوخ والشباب. وفي حين يتنقل مسلم بالكيس الممتلئ بقبعاته الملونة والمختلفة، يقول: “أنا مرتاح بعملي البسيط هذا، فقط لو تسمح لنا السلطات الرسمية بوضع بضاعتنا على الأرض. أخيراً، أطلقت حملة ضد البائعين المتجولين وأصحاب البسطات، وأصدرت أوامر بعدم استغلال الشوارع والأرصفة العامة. لذلك، أحمل طرابيشي الآن في كيس كبير وأدور بها، وهو الأمر الذي يؤثّر على مبيعاتي. لكن في حال أمسكت بي السلطات وأنا أضع القبعات على الأرض، فإنّها سوف تعمد إلى مصادرتها وهي رأس مالي الوحيد”.يتابع مسلم: “أجلس في المقهى يومياً لأنّ زبائني بغالبيتهم هنا. ولم أتمكن من فتح محلٍّ خاص بسبب إمكاناتي المادية الضعيفة. سابقاً، كنت أرسل القبعات إلى تجار لمعاونتي على ترويجها وبيعها. لكن عندما توفيّ أصحابها، توقفت عن تسويقها في المحال الكبيرة، ولجأت إلى البيع بشكل شخصيّ”. ويؤكد أنّ “الأمر يحتاج إلى صبر وحكمة”، في حين يشدّد على أنّ صنعته هذه تعينه على العيش بعدما ترك البحر. أكثر من ذلك، فهي “مصدر تسلية وسعادة بالنسبة إليّ”. *العربي الجديد