بحلول اليوبيل الفضي لاعتلاء صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله عرش اسلافه الميامين صيف هده السنة، تكون 25 سنة من فترة حكم جلالته فترة اجتماعية بمعالم نهضة تنموية واقتصادية كبيرة. حيث عرفت المملكة في عهده الزاهر ثورة ومجتمعية هادئة غيرت معالم المغرب الحديث الدي اضحى محط انظار خصوم المملكة قبل اصدقائها. فبعد ربع قرن من الحكم بدا من السهل تحديد حجم المنجزات التنموية الكبيرة التي دشنها صاحب الجلالة حفظه الله لاستشراف مغرب الغد. فالتغييرات الجدرية التي عرفها المغرب في السنوات الأخيرة تأتي تتويجا لمسار حكم جدي استطاع من خلاله احداث تغيير عميق و متنوع في جميع مناحي حياة المواطنين المغاربة على كافة الأصعدة الاجتماعية و الإنسانية و الحقوقية و السياسية و الاقتصادية و الرياضية والتنموية والدبلوماسية . ولم يكن من السهل تحقيق هده المنجزات دون تجاوز العديد من المطبات المعقدة في تدبير حكم دولة عريقة كالمغرب محيطها صعب و شعبها مثقل بإرث تاريخي و تنوع ثقافي و عرقي معقد في تكويناته العربية و الإسلامية و الامازيغية و الصحراوية، و الغني بروافده الافريقية و العبرية والاندلسية والمتوسطية. فبعد 25 سنة من حكم جلالته حفظه الله للمملكة اتخذ مجموعة من القرارات الصعبة في مساره التدبيري للدولة وواجه مجموعة من التحديات لرسم معالم بلد جديد وعصري كان منهكا اقتصاديا ومحاطا بجوار إقليمي صعب. وأسس لمنهجية تدبيرية متجددة فتح من خلالها اوراشا تنموية كبرى ودشن مشاريع ضخمة واطلق خططا للتنمية الاجتماعية و الاقتصادية واحداث تغييرات جذرية على صعيد البنيات التحتية ما جعل الناتج الخام الوطني يتضاعف بين سنة 2000 و 2020 ليتجاوز 1000 مليار درهم. وعموما يمكن رصد معالم الإصلاحات الملكية و تأثيراتها و صورها المتعددة في المحاور التالية: * تحديث المنظومة السياسية المغربية يعتبر جلالة الملك رمزا لوحدة الامة وضامن دوام الدولة واستمرارها والأمين على صيانة الاختيار الديمقراطي وحقوق وحريات المواطنين، حيث استطاع مند السنوات الأولى لحكم جلالته ان يبسط نمط سياسي جديد بفكر حديث يقوم على نظام الملكية الدستورية والتعددية الحزبية والليبرالية الاقتصادية وإرساء دولة الحق والقانون مع إقرار التنمية البشرية للنهوض بالأوضاع الاجتماعية لشريحة واسعة من المواطنين، وهي إشارات استطاع من خلالها بعث روح الامل وإشاعة الطمأنينة والتفاؤل نحو مستقبل سياسي امن ومستقر يسهم في الإقلاع الصحيح لبلادنا نحو افاق التقدم والرقي و التنمية الشاملة. وقد أولى جلالته نصره الله للقضية الوطنية الأولى قضية الصحراء المغربية كامل العناية والأهمية التي تستحقها باعتبارها قضية جميع المغاربة، وقد استطاع من خلال مجهوده الدبلوماسي ان ينتزع اعتراف دوليا بمغربية الصحراء وان يحدث قطيعة مع أطروحة الانفصال المزعومة والقضاء على أحلام تقسيم المملكة التي قادها خصوم وحدتنا الترابية. وتبقى الجهوية المتقدة احدى اهم معالم السياسة الداخلية الوطنية التي اقرها صاحب الجلالة وجعلها خيارا استراتيجيا يقوم على جعل الفضاءات الترابية تحتل وضعا مؤسسيا ودستوريا متقدما في علاقاتها مع مسلسل اعداد وتنفيد السياسات العمومية وفقا لمقاربة مبتكرة و طموحة تواكب التحولات الهيكلية الكبرى التي يعرفها المغرب. فالرؤية الملكية للجهوية المتقدمة تقوم على بلورة مقاربة تترجم جدية المملكة في مواكبة التدبير الأمثل للمجال بما يتماشى مع مقومات الحكامة الترابية والديمقراطية التشاركية في اطار معادلة ربط المسؤولية بالمحاسبة وتنفيد المشروع المجتمعي وفق النموذج التنموي الجديد. فتجربة الجهوية الموسعة ليست وثيقة دستورية فقط بل هي التزام من اجل تفعيل مجموعة من الاوراش الملكية وهي الاطار الأنسب القادر على تنزيل الحكامة الترابية والتوازن بين الجهات وخلق وإعادة انتاج الثروة. 2-اهتمام جلالته بالقضايا الاجتماعية على غرار تحديث الحقل السياسي أولى جلالته حفظه الله لإصلاح المجال الاجتماعي مكانة مركزية حيث استطاع في ضرف وجيز وضع ميثاق مجتمعي و ديمقراطي جديد يمزج بين الوفاء للتقاليد العريقة وبناء الدولة العصرية بمؤسسات ديمقراطية حداثية ضمن منظور تنموي قائم على المبادرة الفردية المشبعة بروح التكافل الاجتماعي. فمنطق القيادة السليم اقتضى من جلالته إعطاء الأولوية للقضايا الاجتماعية والاهتمام بفئات هشة واسعة من المواطنين واحداث مؤسسات اجتماعية الهدف منها محاربة الفوارق الاجتماعية والتقليل من نسب الفقر والهشاشة، مع الحرص على تقديم خدمات إنسانية جليلة تحت رعايته السامية. كما حظي موضوع التشغيل ومحاربة البطالة والحث على خلق فرص الشغل صميم تدخلاته الميدانية من خلال تسطير العديد من المخططات والبرامج الهادفة الى جلب الاستثمارات وانجاز المشاريع الكبرى التي تمتص البطالة، مع إيلاء الأولوية للعالم القروي والقضاء على السكن العشوائي والصفيحي. دون ان ننسى حرصه السامي على اصلاح منظومة التعليم الذي شغل حيزا هاما من اهتماماته الانية والمستقبلية لما تكتسيه قضية التعليم من أهمية قصوى ولما لها من اثار في تكوين الأجيال القادرة على بناء الوطن. وبقى ورش المبادرة الوطنية للتنمية البشرية التي اطلقها جلالة الملك في مايو 2005، للقضاء على الهشاشة والفقر وتكريس التضامن الاجتماعي، اذ تعد مبادرته النموذج الأمثل للشراكة الثلاثية الناجعة بين الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع المدني والتي حققت مجموعة من المنجزات التي ساهمت في التقليص على الفوارق الاجتماعية. 3-إرساء نمودج اقتصادي جديد فبعد 25 سنة من قيادة جلالته الرشيدة بات جليا ملاحظة التطور الاقتصادي الذي عرفته المملكة في عهده نظرا الى المستوى المرموق الذي وصلته البنية التحتية الوطنية من خلال تعميم الطرق السيارة والسريعة و تأهيل المسالك الطرقية بين المدن، لتسهيل عملية التنقل والرواج الاقتصادي الوطني حتى صارت المملكة ثاني دولة افريقية من حيث جودة بنيات الطرق السيارة. دون ان ننسى حرصه السامي على تطوير مطارات وموانئ المملكة واحداث بنيات جديدة في مختلف الجهات هدفها التجويد الاقتصادي والأداء المالي لسائر المؤسسات الاقتصادية. كما شهد القطاع الصناعي في عهده طفرة نوعية من خلال اطلاق برامج الإقلاع الاقتصادي للمملكة وتشجيع آلياته عبر انشاء مناطق صناعية عصرية والانفتاح على جديد الاستثمارات الدولية مع تطوير المنتجات المحلية و جعلها تنافسية. فقد بدا جليا التفوق الاقتصادي للمملكة في عهد جلالة الملك محمد السادس الدي احدث ريادة على المستوى الصناعي و اللوجستي من خلال تدشين اكبر ميناء في افريقيا والرابع عالميا، واحداث منصة كبرى للمنطقة الحرة بطنجة المتوسط. مع اعتماد المملكة لمشاريع الطاقات البديلة والمتجددة والاقتصاد الأخضر، مع تطوير القطاع السككي الوطني عبر انجاز القطار الفائق السرعة و تمديد خطوطه الى مدن أخرى. وفي السنوات الأخيرة بصم جلالته على استراتيجيات جديدة في مجال الصناعات الحديثة خاصة قطاع الطيران وصناعة السيارات الدي اصبح المغرب رائدا فيه و اضحى مثالا يحتذى به في هدا المجال. فالسياسة الصناعية لجلالته اعتمدت على سياسية مهيكلة خلاقة ومتطورة لنسق اقتصادي متكامل يخلق فرصا للشغل ويسمح بضمان تجانس بين مكونات الاقتصاد الوطني. ففي عهده الزاهر تميز الاقتصاد المغربي بالازدهار و التنافسية اذ قاد جلالته نقلة نوعية لاقتصاد المملكة المبني على الاستقرار السياسي الذي ميز عهده السامي كاستثناء إقليمي في زمن الازمات المستمرة والمتتالية. 4-ترسيخ مغرب الحقوق والحريات مند اعتلاء جلالة الملك محمد السادس عرش اسلافه الميامين اعتمد فلسفة جديدة في نشر ثقافة التسامح واحترام الحقوق والحريات كما هي متعارف عليها في الاتفاقيات الدولية، وهي فلسفة قائمة على الاعتراف بخروقات الماضي وإرساء عدالة الحق و القانون انطلاقا من احداث هيئة الانصاف والمصالحة، مرورا بترسيخ الحقوق الفردية و الجماعية للمغاربة في نص الدستور تماشيا مع البعد الكوني لهده الحقوق. و تدعيما لهذا المسار تم انشاء المجلس الوطني لحقوق الانسان في مارس 2011، والذي يتولى النظر في جميع القضايا المتعلقة بالدفاع عن حقوق الانسان والحريات وحمايتها، وضمان ممارستها الكاملة، والنهوض بها وبصيانة كرامة وحقوق المغاربة افرادا وجماعات. فقد استطاع جلالته بحنكته وجرأته أن يفتح مجموعة من الملفات الحساسة كملف المعتقلين السياسيين، وحقوق المرأة، وحقوق الأقليات، وادخال مجموعة من التعديلات التشريعية على على قانون المسطرة الجنائية، وتوقيع مجموعة من الاتفاقيات الدولية المهتمة بحقوق المرأة والطفل، وإدخال إصلاحات على قوانين الحريات العامة والصحافة والجمعيات والتجمعات العمومية. ايمانا من جلالته بأهمية هده الإجراءات. وقد حظيت المرأة في عهد صاحب الجلالة الملك محمد السادس باهتمام خاص وبأولوية ضمن الإصلاحات التشريعية و المؤسساتية، حيث اهتم جلالته بالأسرة من خلال اصلاح مدونة الأحوال الشخصية وفقا لخيارات حداثية تقدمية مبنية على قواعد الاجتهاد وفق لقواعد الدين الإسلامي السمح. واليوم و بعد مرور عقدين من الزمن على إقرار مدونة الاسرة لسنة 2003، وبالنظر الى حجم الانتقادات التي طالت تطبيقها وتجاوزا لمجموعة من الاعطاب التي ابانت عنها قام جلالة الملك بمراسلة السيد رئيس الحكومة من اجل إعادة النظر في نصوصها، وهو ما عجل بأحداث لجنة قيادة عملت على اعداد مجموعة من التوصيات بشكل جماعي و مشترك ورفعتها الى السدة العالية بالله تبعا لتعليماته السامية. هذا التوجه الدي تبناه جلالة الملك في سياسته التدبيرية تعبر عن فكر سياسي ساهم في التحول الديمقراطي الدي اختاره للمملكة وفقا لمنظومة حقوقية تتسم بالحرية والتعدد وتكرس قيم الاختلاف والمساواة والعدالة. ان مركزية المملكة المغربية اليوم بين الدول واشعاعها القاري والدولي والاحترام الذي أضحت تحظى به لم يأتي من فراغ و انما لعمل دؤوب ومستمر لجلالة الملك محمد السادس الذي استطاع احداث نقلة نوعية من مغرب القرن 20 الى مغرب التقدم و التطور والازدهار عبر سلسلة مترابطة من الاوراش التنموية الكبيرة. فقصة نجاح ملك استطاع ان يقر إصلاحات سياسية واجتماعية واقتصادية عميقة ساهمت في الإقلاع الاقتصادي للمملكة ودخولها نادي الكبار في مجال الصناعة و التجارة الدوليين، فنجاح هدا المسار واستمراريته رهين برفع مجموعة من التحديات يأتي على راسها اصلاح منظومة التربية و التعليم والرفع من مردوديته وتحسين جودة الخدمات الصحية والبنية التحتية العلاجية وتطوير العرض الصحي، مع فرض إصلاحات اقتصادية لخلق فرص الشغل و تطوير السياسات القطاعية في مجال الفلاحة و الصناعة و الانتقال الرقمي و تقوية سلاسل الإنتاج و ادماج الطاقات المتجددة في سبيل استكمال النهضة التنموية الكبيرة التي اقرها صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله. * نائب عمدة طنجة