لم يراعِ كاتب المقال أسفله مشاعر ساكنة مدينة طنجة، فوصفها بأقذع النعوت، فهي مدينة المحرمات، يقصدها أصحاب الانحرافات الجنسية، إنها بورديل عالمي كبير، وهذا هو سبب أنها قبلة لمبدعي العالم، حسب كاتب المقال. وقد تحولت إلى عاصمة الدواعش والصوفية والحركات الإسلامية المتطرفة، وهذا سبب دعمها لفلسطين. حينما نقرأ هذا المقال المغرض تبدو لنا طنجة مدينة شاردة متفلتة من أية سلطة، وكأنها إمارة لها من يحكمها بعيدا عن القانون، وأجهزة الدولة المغربية غافلة عما يحدث فيها، لكن صاحب المقال تفطن لهذا الخطر المحدق، فأصبح يُملي على المؤسسات الرسمية كيفية التعامل مع طنجة، وفي هذا الإطار أصدر أوامره بضرور تغيير بنيتها الديموغرافية وتطعيمها بالقبائل الحسانية، وكأن عاصمة البوغاز غيتو مقفول على أصحابه فقط. لم يَرُق صاحب المقال أن مدينتنا العزيزة تتضامن مع غزة باستمرار وهو ما سماه "التضامن الهستيري مع غزة"، فيُشير بخبث أن هذه الفعاليات هي من تنظيم المتطرفين فقط! ولم ير القصف الهستيري الجنوني الذي يقتل ويدمر كل يوم، هذا الإرهاب لم يدفع صاحبنا لأن يبدي أسفه أو تضامنه مع فلسطين، وأطفالها ونسائها وشيوخها، هذا لا يهمه، بل كل همه كيف نوقف من يتضامن مع غزة. نُذَكّر كاتب المقال اللاشرعي أن مدينة طنجة تضامنت مع فلسطين منذ الوهلة الأولى لاحتلالها، فجمعت التبرعات المالية في ثلاثينات القرن الماضي عبر لجنة شكّلها أهالي المدينة، فسارع رجالها ونساؤها إلى دفع كل ما يَملكون نصرة لإخوانهم المظلومين والمغصوبين في أراضيهم. وقبل استقلال المغرب، عرفت احتفالات سابع المولد النبوي الشريف بضريح بوعراقية بطنجة، مظاهرات تهتف ضد المستعمر الفرنسي والإسباني، وتطالب بتحرير المغرب وفلسطين، وقد اعتقل في هذا الصدد العشرات من الوطنيين، فتعرضوا للسجن والنفي. ليس ذنب طنجة أن يقصدها الأجانب إبّان المرحلة الدولية، ويعيش سكانها التعاسة لأن بعضهم أصبح خادما لهؤلاء، ويقطن أحياء مُهمشة بينما يرفل الأجنبي في نِعمها، لم يخْتر الطنجاويون أن يحكم مدينتهم لفيف من الدول الأجنبية، فتشكلت خُونْطَة القناصل سنة 1792، وحكمها مجلس تشريعي دولي من 1923 إلى الاستقلال. هذه الوضعية الخاصة لطنجة وقربها الجغرافي من أوروبا هي التي أظهرت بعض المظاهر الدخيلة، التي لم يقبلها سكانها بل عملوا على محاربتها، فاستمر النضال الوطني في شوارعها وأحياءها عبر جيش التحرير بالشمال، حتى طرد المحتل. لم يَدُر بِخَلَد أي طنجاوي أن يأتي زمان يُحاسَب فيه على حسن تعايشه مع الغير، هل كان صاحب المقال يتمنى أن يغتال أهل طنجة الأجانب الذين ينزلون بها؟ لم تعرف مدينتنا العزيزة المنفتحة غيتو لليهود، بل كانوا جزءا من التركيبة الاجتماعية، يعيشون مع المسلمين في بيوت مشتركة، وفي أحياء تضم كافة الديانات. إن طنجة التي وصفها كاتب المقال اللاشرعي بأقبح النعوت، هي التي انطلقت منها فتوحات طارق بن زياد للأندلس، وهي منارة خرّجت رجالا أفذاذا خدموا وطنهم بكل إخلاص، فأول عامل لها عُيّن بعد الاستقلال هو العلاّمة عبد الله كنون رحمه الله، وهو أحد رجالاتها ولازال بيته لليوم بها ومكتبته العامرة تتوفر على آلاف العناوين المتنوعة. كما أخرجت طنجة أسرة بن الصديق، وهم سبعة رجال علماء، تقلدوا مناصب رسمية وأهلية. كما شكّل مؤتمر طنجة سنة 1958 الذي احتضنه قصر مرشان، برئاسة الزعيم علال الفاسي، محطة مغاربية (شاركت فيه تونس والجزائر) لحركات التحرر الوطني. أما ملكنا الهمام محمد الخامس رحمه الله، جعل من زيارته لطنجة سنة 1947 لَبنة أساسية لاستقلال المغرب، وهي الزيارة الاستراتيجية التي وقف في وجهها الاستعمار وحاول منعها، فأحبط رجال طنجة كل تلك المحاولات وأنجحوا الزيارة التي مهدت لاستقلال المغرب. من أبناء مدينة طنجة التي لا يذكرها صاحب المقال إلا بالسوء، المرحومان عبد الرحمان اليوسفي وعلي يعتة، المناضلان اليساريان الصنديدان، وقد أبلوا البلاء الحسن في سياسية هذا البلد وقدموا صورا ناصعة، والمسرحي عبد القادر البدوي، كما عاش فيها مولاي أحمد الوكيلي ومحمد العربي التمسماني في فن الآلة، والرسام محمد علي الرباطي عرّاب التشكيل المغربي. طنجة هي أول مدينة عرفت كرة القدم وبها تأسس أول فريق كروي سنة 1919، ولها إذاعة وطنية مواطنة، إذاعة طنجة، التي وقفت في وجه الانقلابات زمن الحسن الثان.، ففي الوقت الذي سيطر فيه المنقلبون على إذاعة الرباط وأخذوا في إذاعة بيانهم الأول، كانت إذاعة طنجة تؤكد أن المغرب مَلَكي وسيبقى كذلك، وأحبطت الإشاعات القائلة بأن الملك الحسن الثاني قد قتل، وهكذا فشل الانقلاب المشؤوم. كان الأحرى بصاحب المقال، قبل الحديث عن مدينة طنجة، أن يشاهد برنامج "ذاكرة المدن" للمرحوم عبد الحفيظ الرفاعي الذي خصص لمدينة طنجة حلقات تعتبر وثائق تاريخية استنطقت ما حفلت به مدينتنا العزيزة طول تاريخها الغني والضارب في أعماق التاريخ. يوم كانت الصحافة الوطنية تبحث عن كل ما يُعلي قيمة الوطن، وتغوص في تاريخ مدنه، وتُثَمن التراث اللامادي، وتغري السياح بزيارته، وترجع الفضل لأهله، لا أن تسبهم وتقذفهم بما ليس فيهم.