لا أحد يفهم، على الإطلاق، لماذا تستمر الدولة المغربية في ممارسة هذه اللعبة الرديئة، التي اسمها الانتخابات البلدية، أو الانتخابات الجماعية، والتي توصل كل عام إلى المجالس المنتخبة آلافَ «المعكازة» الذين كانوا يتكئون على الحيطان في راس الدرب، فوجدوا أنفسهم فجأة على مقاعد وثيرة يقررون في مصير الشعب ويتسابقون لنهب الميزانيات والتوقيع على الرخص المشبوهة. ومنذ أن ظهرت المجالس البلدية، ومعها البرلمان، ثم الغرفة الثانية في البرلمان، فإن علامات الاستغراب لم تفارق أبدا عقول المغاربة، وكلهم ظلوا يرددون ذلك السؤال المؤرق، وهو: لماذا يصل إلى البرلمان أشخاصا أميين أو مهربي مخدرات أو متورطين في تهريب «الحراكة» أو في أشياء أخرى كثيرة؟
ومنذ أن ظهر البرلمان في المغرب، ظهر معه الإحساس بالخجل، أي خجل المغاربة حين يرون ممثليهم في مجلس النواب وهم يغرقون في نوم ثقيل، أو يفتحون أفواههم ببلاهة منقطعة النظير لأنهم لا يفهمون شيئا مما يجري، أو أن «القافزين» منهم يتبادلون الشتائم و«المْعيور»، في مشهد لا يقل إثارة عن مشهد حمّام الحومة. المسألة تبدو أكثر سوءا في المجالس البلدية، التي وصلها أشخاص كانوا يبيعون السجائر بالتقسيط، أو يضربون الطبول والمزامير ويقتاتون من الأعراس والحفلات، أو يبيعون المخدرات بالتقسيط، ثم وجدوا أنفسهم يخططون للبلاد ويرسمون الأهداف الاستراتيجية للمدن، وكلما ظهرت أمامهم ميزانية تسابقوا لنهبها، وفي كل مرة تجدهم يحملون ملفات وهم يقفون أمام مكتب «السيد الرئيس» لتوقيعها لأنهم يقتاتون بالسمسرة في التوقيعات. بلدان العالم تسير بالكفاءات والأطر وحماس الغيورين على البلاد، ومدننا يسيرها أميون يصلون لكي يمزقوا الميزانيات في ما بينهم وينهشوها مثل ضباع جائعة. مجموعة من المجالس البلدية أو مجالس المدن يدخلها الناس وهم يحملون أسلحة بيضاء أو سيوفا، وفي الكثير من الحالات يتبادل المستشارون البلديون سبابا فاحشا أو حركات بذيئة، ولو أن مواطنا أجنبيا يعيش في بلد ديمقراطي حقيقي دخل بالصدفة إلى عدد من مجالسنا البلدية ورأى ما يحدث فيها لأصيب بالجنون وصار ينتف شعره من الصدمة. أمام هذه المظاهر الديمقراطية العجيبة، تنفق الدولة المغربية الملايير من أجل جلب صناديق زجاجية لاستخدامها في عملية التصويت، وهذه الصناديق الزجاجية الشفافة هي التي تخرج لنا هذا الكم الهائل من الجهلة والأميين في المجالس البلدية والمقاطعات الانتخابية. ففي تركيا مثلا، وهي مضرب المثل في الديمقراطية، يستخدم الناس صناديق من كارتون من أجل التصويت، وبعضها تتم استعارته من مخازن الزيت والدقيق ويتم استخدامه في العملية الديمقراطية، لأن شفافية الانتخابات في الرأس وليست في صناديق الزجاج، فالعقليات المظلمة لا يمكنها أبدا أن تنتج ديمقراطية شفافة. أمام هذا الوضع المخيف، هناك عشرات الآلاف من الكفاءات التي لا تجد لها عملا، وهناك مهندسون ومحاسبون ومسيرون ومنظرون وحقوقيون عاطلون، وعدد منهم يأكل العصا كل يوم أمام البرلمان، لماذا، إذن، لا يتم تعيين هؤلاء في الجماعات المنتخبة مقابل راتب شهري، عوض أن يصل «المنحرفون» إلى هذه المجالس ويمارسوا دور الفئران في قضم الميزانيات وتحويلها إلى يباب. ليس كل المستشارين الجماعيين والنواب من هذه الطينة، وهناك أحزاب تتوفر على كفاءات حقيقية، لكن المشكلة أن هذه الكفاءات تضيع تماما وسط هذا الكم الهائل من الجهلة الذين ينتصرون على الجميع بالصراخ وضربات قبضاتهم، وأحيانا يدخلون في صراعات دموية ليتذكروا سوابقهم في الضرب والجرح. ورغم كل ذلك، لا نزال نصر على أن عندنا ديمقراطية، ولا نزال نصر على اقتطاع الملايير من قوت الشعب لشراء أطنان من الصناديق الزجاجية الشفافة لكي نلعب بها لعبة مظلمة وحالكة.