دأبت الأستاذة عائشة بهاج على العمل التطوعي داخل المؤسسات التعليمية منذ التحاقها بمجال التدريس مع مطلع عقد الثمانينيات من القرن الماضي، حيث لا تزال بعض المؤسسات التعليمية شاهدة على نزوع هذه السيدة إلى كل ما هو جميل ونافع. انشغلت إلى حد الهوس بإنشاء وتهيئة المساحات الخضراء داخل المدارس، حيث كانت تحرص على إشراك التلميذات والتلاميذ في هذه المبادرات رغبة منها في زرع الحس التطوعي في نفوسهم، وتربيتهم على مبادئ وقيم التمدن التي ترتقي بالمجتمع إلى مراتب عليا من التحضر والتطور. التربية على قيم الجمال ظلت حاضرة باستمرار أيضا ضمن اهتمامات السيدة بهاج، التي كانت تدفع بتلامذتها لعشق الفنون الجميلة، ومن جملتها الرسم، إلى جانب التعاطي للأعمال اليدوية الإبداعية، والاشتغال على الديكور، والتهيئة الفنية للفضاءات داخل المؤسسات الدراسية. لم يكن عشق الأستاذة عائشة بهاج للعمل التطوعي مقتصرا على التربية على الفنون والجمال، بالموازاة مع أدائها لمهامها كمربية، بل امتد اهتمامها ليشمل شريحة اجتماعية جديرة بالعناية، وهي فئة الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة. كان التلامذة الصغار الذين يعانون من مختلف أشكال الإعاقة، والذين كانوا "غير مرغوب فيهم" في بعض الفصول الدراسية، يجدون ملاذا حاضنا لهم في الفصل الدراسي للأستاذة عائشة بهاج التي ظلت تحيطهم بفيض من العناية التي تجعلهم يقبلون بلهفة على التعلم، وتجاوز الإحساس بالإعاقة . شكلت تجربة الأستاذة عائشة بهاج نموذجا يحتذى في العناية بالأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة، حتى قبل أن تبادر وزارة التربية الوطنية بإطلاق تجربة الأقسام الدامجة للتلامذة المعاقين سنة 2006، والتي بمجرد ما أعلنت عنها الوزارة عبر نياباتها الإقليمية حتى انتابت السيدة بهاج فرحة عارمة إزاء هذه المبادرة التي اعتبرتها جزءا من الإنصاف الذي تتوق إليه فئة الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة. بعد إطلاق تجربة الأقسام الدامجة للأطفال ذوي الإعاقة، أصبحت الأستاذة بهاج منشغلة أكثر بالبحث عن الكتب والمراجع المتخصصة لتطوير كفاءتها، وصقل تجربتها في ما يتعلق بتربية الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة. همها الوحيد أن تكتسب هذه الفئة الاجتماعية حدا أدنى من المهارات التي تؤهلها للمساهمة بحسب إمكانياتها في خدمة المجتمع. لا تخفي السيدة بهاج فرحتها الكبيرة حين صادفت ذات يوم خالد ليترو، وهو أحد تلامذتها السابقين من ذوي الاحتياجات الخاصة، الذي أصبح موظفا بالمستشفى الإقليمي لمدينة تيزنيت. عندئذ تيقنت بأن التضحيات الجسام التي بذلتها لفائدة الأطفال المعاقين لم تذهب سدى، وأنها استطاعت فعلا أن تكسب رهان إدماج المعاق في وسطه الاجتماعي. لم تنتش السيدة بهاج كثيرا بفرحة التقائها بتلميذها السابق الذي اصبح موظفا، إذ فاجأتها وفاة والدتها ووالدها، في ظرف زمني وجيز من سنة 2013، لتتلقى بذلك صدمة قوية ظلت تنخر كيانها الجسدي والنفسي دون أن تقوى على مقاومتها، وذلك بالرغم من السند الذي كانت تتلقاه من معارفها ومن محيطها الأسري. على الرغم من وضعها الصحي الحرج، المتمثل بالخصوص في حالة الهزال الجسدي الواضح الذي أصيبت به، حيث فقدت 30 كيلوغرام من وزنها العادي، ظلت السيدة بهاج متمسكة بشغفها الراسخ بخدمة الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة، حيث استمرت في أداء ما تعتبره "واجبا وطنيا وإنسانيا" إلى أن خارت قواها ذات يوم وهي تؤدي وظيفتها، حيث تم نقلها على وجه السرعة نحو المستشفى. أصبحت السيدة بهاج تستعين بعكاز للمشي، كما أصيبت بشلل جزئي في يديها اللتين لم تعودا قادرتين على أداء وظيفتهما، مما أصبح يتطلب منها الخضوع لحصص من الترويض الطبي، عسى أن تتقوى عضلات اليدين والرجلين لدى هذه السيدة التي أصبحت شبه مقعدة بعدما كانت خزانا لا ينضب من الحركة والحيوية. بادرت الأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين لجهة سوس ماسة بالتفاتة رمزية اتجاه هذه المربية المكافحة، حيث قامت بتكريمها بمناسبة تنظيم الملتقى المغاربي حول التربية الدامجة للأطفال في وضعية إعاقة خلال شهر نونبر الماضي، الشيء الذي منحها بكل تأكيد دعما معنويا، جعلها تحس بأنها لا تزال مسنودة من ذوي النيات الحسنة، وفي مقدمتهم أسرة التعليم التي تنتسب إليها، إلى جانب جمعية آباء وأولياء تلامذة مدرسة المغرب العربي بأكادير التي تشتغل بها. وإلى جانب إحساسها بالفخر الناتج عن كونها أسدت خدمات جلى لفئة الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة، فإن السيدة بهاج لا تخفي أيضا فخرها واعتزازها بكونها كانت ناجحة أيضا في حياتها الأسرية، لاسيما بعدما استطاع ابنها الوحيد، محمود الوردي، الذي يشتغل بدوره مدرسا، أن يناقش رسالته لنيل شهادة الدكتوراه في علوم الكيمياء. وعلى الرغم من هذا الشعور بالاعتزاز والفخر، فإن السيدة بهاج لا تشعر بالحسرة لعدم توفر مركز للترويض الطبي بأكادير يسدي خدماته بالمجال للأشخاص الذين يعانون من الإعاقة الجسدية التي أصبحت هي بدورها تعاني منها، وتتطلع إلى أن تتعافى منها ذات يوم لتعود من جديد للقيام بواجبها الإنساني، الذي لازالت متشبثة به، لاسيما بعدما أصبحت تحس عمليا بما يعانيه ذوو الاحتياجات الخاصة. (*) و م ع