عندما قرر الرئيس الباكستاني السابق برويز مشرف إقالة رئيس المحكمة العليا في باكستان القاضي افتخار محمد شودري وتحديد إقامته، تجمع نحو 4 آلاف محام بشكل سلمي قرب المحكمة العليا في العاصمة الباكستانية خلال جلسة من محاكمة قاضي القضاة، ونددوا بقرار مشرف بإقالته، ورفعوا شعارات مثل "مشرف هو قاتل العدالة". كما تجمع آلاف المحامين في مدينتي لاهور وكراتشي واستمرت الاحتجاجات بقوة وعزم . يحتل القاضي افتخار محمد شودري، رئيس المحكمة العليا الباكستانية، الذي عاد إثر ضغوط وحركة احتجاج غير مسبوقة، مكانة فريدة في التاريخ القضائي الباكستاني، فهو أول رئيس محكمة عليا في باكستان يقيله الرئيس. وهو أول رئيس محكمة عليا في باكستان خرج الآلاف من المحامين في اعتصامات متواصلة في كل المدن الباكستانية أدت لاحقا إلى إجبار الرئيس الباكستاني السابق برويز مشرف على الاستقالة. وهو أول رئيس لمحكمة عليا في باكستان خَرج رئيس المعارضة نواز شريف من إقامته الجبرية مع الآلاف من أنصاره لطلب إلغاء حكم توقيفه من منصبه . وإذا رجعنا لتاريخ الرجل فإنه أثار استياء السلطات منذ إلغائه خصخصة أكبر مجموعة وطنية للصناعات المعدنية. بالاضافة لاتخاذه لمواقف حازمة في قضايا حقوق الانسان تتعلق بفقدان أشخاص يعتقد أنهم موقوفون من قبل قوات الأمن الباكستانية. كما أن الشعب خرج في تظاهرات عارمة طلبا لرأيه وانصافه القضائي ردا على الهجمات الأمريكية بالطائرات دون طيار في منطقة وزيرستان. أما إذا عدنا للمغرب، فقد عزل يوم الخميس 11 فبراير 2016 القاضي الدكتور محمد الهيني من سلك القضاء، بعد تعبيره عن رأيه في مناقشات همت مشاريع قوانين منظمة لسلك القضاء تنزيلا لدستور 2011. لقد عزل القاضي الهيني لأنه كفاءة علمية وفقهية انتصرت للحق والقانون في كثير من القضايا التي عرضت أمامها . عُزل القاضي الهيني لأنه عبر بحرية وتجرد وأمانة ومنطق عن رأيه في منظومة العدالة الخاضعة "للنقاش العمومي" .. عُزل القاضي الهيني لأنه آمن باستقلالية القضاء ومحوريته في الدفاع عن الحقوق والحريات. عُزل القاضي الهيني لأنه قال باستمرارية الدولة ومسؤوليتها عن تشغيل الطلبة حاملي الشهادات العليا، التي تعهدت حكومة السيد عباس الفاسي ووقعت على محضر 20 يوليوز الملزم بتشغيلهم، وجاءت حكومة السيد عبد الاله بنكيران وأخلفت وعدها لهم ..بل وعاقبته على حكمه و قراره المنتصر للحق والعدالة الاجتماعية. عُزل القاضي الهيني لأنه كرس سمو القاعدة القانونية التي تنتصر للعدالة و روح الدولة المواطنة. عُزل القاضي الهيني لأنه لم يؤمن بالتعليمات، والتحكم والتطبيل للوزير الملهم .. عُزل القاضي الهيني لأنه أراد لبلاده ومواطنيه قضاءا متخصصا مستقلا، من خلاله دعوته لإحداث مجلس للدولة، على غرار مؤسسات الدول الديمقراطية ، مجلس مرجعي يحمي الحقوق ويضمن الحريات. إن مثل هذه القرارات تعبر بشكل واضح أن المغرب قد نهج مسارا آخرا، يقطع مع كل الآمال التي كان يسوق لها داخليا وخارجيا، بآلات دعائية مروجة لإصلاح في ظل الاستقرار، مع يقين الجميع أن الخرق أوسع من الراقع. إذا تأملنا في تفاصيل المحاكمة التأديبية التي أشرف عليها السيد وزير العدل مصطفى الرميد، نجد أن القاضي محمد الهيني لم يتمتع بأية ضمانات للمحاكمة العادلة، حيث لم يأخذ مجلسه التأديبي بأية دفوعات هيئة الدفاع على وجاهتها وعمقها وجديتها وتأسيسها، وفي هذا تعد صارخ على كل القوانين الاجرائية والموضوعية المنظمة لأسس المحاكمة العادلة، بل إن الخرق طال حتى الوثيقة الدستورية نفسها، هذا دون أن نتحدث عن العسف الذي طال الاتفاقيات الدولية الأممية الناظمة لعمل الهيئات القضائية والتي التزم المغرب باحترامها وحمايتها. ويمكن أن ألخص بتركيز شديد بعض هذه الخروقات، لأن المقام لا يسمح بالتوسع ، حيث نجد : أن السيد وزير العدل ومجلس القضاء الأعلى، لم يجب على التجريح الذي تقدم به دفاع القاضي محمد الهيني، على اعتبار أن السيد وزير العدل، ينتمي للحزب الذي تقدم فريقه البرلماني بشكاية في مواجهته ..فكيف يستقيم قانونا ومنطقا وعرفا، أن يكون خصما وحكما . لم يُمَتع القاضي الهيني بأبسط ضمانات المحاكمة العادلة، التي تمنح لجميع المتقاضين في العالم، وهي ضمانة التقاضي على درجتين ..إذ اكتفت جهة تأديبية باتخاذ قرار العزل، ولا معقب لحكمها. وفي هذا استهتار بين بحقوق الدفاع والانسان، وخرق سافر لكل المواثيق الأممية ذات الصلة . لم يعد خافيا على أحد التدبير السياسي للملف، فالقاضي محمد الهيني بكفاءته وعلو كعبه المهني والعلمي والحقوقي، ونزاهته المشهود بها، أمست تؤرق من يهمهم الأمر وتحرجهم، فالبعض يُنَظر للردة الحقوقية وتفريغ دستور 2011 من مضامينه دون أن يرمش له جفن. بالرجوع إلى باكستان، نجد أن القاضي افتخار شودري وجد حماية ودعما من قبل جسم المحامين العريض، لما نزل الآلاف منهم للشارع للتعبير عن رفضهم الصارم لقرار رئيس الجمهورية برويز مشرف القاضي بعزله من رئاسة المحكمة العاليا، احتجاج ورفض لم تجد معه المعارضة السياسية إلا أن تدعمه وتسايره .. أما القاضي الهيني فقد خذله حتى المقربون منه وعلى رأسهم أبناء الدار، طلبا للسلامة وايثارا للعافية، خصوصا وأن المغرب يمر بمرحلة تاريخية دقيقة جدا، وتمرر فيها قوانين تأسيسية لمنظومة العدالة ترهن مستقبل الوطن والمواطنين لعقود قابلة، قوانين لم يستشر فيها المعنيون بها أساسا . أما حال ساستنا فقد دقوا أسافين في قلب هذا الجسم الذي من المفترض أن تكون ضمانة للممارسة الديمقراطية البناءة، فقد هالهم أن يكون قضاء بلدهم مستقلا، خصوصا وهم يعلمون قبل غيرهم ، حجم الفساد الذي ينخر الإدارة ويطال المؤسسات، ولا أدل على ذلك تقارير المجلس الأعلى للحسابات ،دون لم نتحدث عن التقارير الدولية التي تصنف المغرب ضمن الدول المتخلفة التي أمسى فيها الفساد بنيويا وممنهجا . لاشك أن قضية القاضي الدكتور محمد الهيني، أصبحت قضية رأي عام، ووسيلة ايضاح، تبرز بشكل فج استقواء البعض بالمؤسسات وقوانينها، لتصفية حسابات سياسية بحتة، بل وممارسة التصفية والاغتيال المعنوي للرموز الوطنية. إن قرار عزل القاضي الهيني وقبله القاضي محمد عنبر، وغيرهم من شرفاء هذا الوطن، اصابة في مقتل للأمن القضائي للمغاربة، وتشكيك في مصداقية المؤسسات ونزاهتها .. إن هؤلاء المتدثرون بقوة الدولة، لم يسمعوا جيدا رأي غالبية الشعب الصامتة التي بلغت نسبة % 80 في المائة التي قاطعت الانتخابات الأخيرة، ولم يفهموا رسالته جيدا. كان على الأقل الاستئناس برأي وزير الخارجية الألماني السابق يوشكا فيشر في اشارته لموجة الربيع العربي الأولى وارتداداتها الحتمية في موجة ثانية، قائلا :" يبدوا أن الصفائح التكتونية قد تحركت فأنى لعقارب الساعة أن تعود للوراء ".. ؟ يبدو أن المغرب يفتقر لرجال الدولة وعقلائها، الذين يفهمون جيدا الظرف شديد الدقة الذي يمر منه البلد، وخطورة الأحداث الإقليمية والدولية التي تؤثر عليه بشكل تبعي، خصوصا وأن الجبهة الداخلية غير مستقرة إن لم نقل مشتعلة في كثير من القطاعات والميادين ..