المكان: حي المصلى- طنجة، هنا عقدنا العزم الصيام لأول مرة خلال شهر رمضان من عام 1407 هجرية الموافق لعام 1987، لم نكن نسمع يومها عن صيام الأطفال ب “التخياط” أي امتناعهم عن الأكل والشرب إلى حدود منتصف النهار من باب تدريبهم وتحفيزهم، لكننا بالمقابل كنا مصرين على أن نصوم و “نقطعوا الماكلة والشراب” قبل سماع طلقات المدفع أو “السيرينا د البومبيروس” (جهاز صافرة الإنذار لدى الوقاية المدنية) صباحا إلى حدود مغرب الشمس التي بدت متثاقلة يومها كأنها افتقدت قيلولة ما بعد الغداء … الأجواء باردة تزامنا مع فصل الشتاء، و”ليل الشتاء” كما يقول الكبار، لكنه أقصر مما يتصور بالنسبة لنا نحن الأطفال، استيقطنا من النوم على إيقاع “طبال الحومة”، رجل كهل يرتدي جلبابا اختفت ألوانه مع مرور الفصول، يمشي بخفة جائلا بين الأزقة و”الحْوٙامِي”، قدرة خارقة على اختراق الفضاء في ساعة متأخرة، لأن طنجة كانت حينها أكثر أمنا، وحتى “الشْبِيرٙات” كانوا يجعلون للشهر نصيبا من التوقير والحرمة حيث لا مجال للمساس بذلك .. “طبال الحومة” ينقر الآلة بمهارة وهي الذي لم يلج المعهد المتخصص في الموسيقى أبدا، سمفونية أشبه بإعلان سريع عن انطلاق معركة، هي مهارة مكتسبة وتملك لأدوات الفن ب “الفطرة” وهنا نقصد الموهبة الربانية “ماشي الفطرة اللي كتعطى ن المحتاجين أيام قبل العيد الصغير” .. الساعة تشير إلى كذا وكذا، لا يهم، أعيننا شبيهة بمن ضربه “دحش الليل” وأحدث في رأسه أمرا ما، نتوجه نحو مائدة يتمركز فيها طعام السحور بفخر واعتزاز، تناولنا ما تيسر من الطعام والشراب، صلينا وقرأنا جزءا من القرآن جماعة في مسجد قريب ..، وعدنا إلى منازلنا لنعانق الفراش مرة ثانية. قبل التاسعة صباحا، توجهنا نحو روض الأطفال، كل واحد منا ترافقه أمه في الغالب، هكذا جرت واقتضت عادة طنجاوة، وبينما نحن نلج باب المؤسسة، يبادرنا المؤطر بالتحية وقوله “رمضان مبارك” أحبتي ويسألنا صايمين؟ .. فنجيب نعم، ولكي نستدل على ذلك نقوم بحركة “إخراج اللسان” وخلوه من أية إشارة تدل على أننا أكلنا شيئا قبل قدومنا للمؤسسة، يبتسم الأخير في قرارة نفسه، ويطلب من الجميع الجلوس -كل في طاولته-، يتوجه المؤطر نحو السبورة ليكتب تاريخ اليوم، بينما نحن نتهامس بيننا مرددين أسطوانة “صاحبو .. نتينا صايم، آه خرج لسانك” .. ننظر بتوجس تجاه زميلنا عصام الأكول (العايل د ماماه) الذي يخفي في محفظته “طاسة د رايبي” و”كيكس” وعيناه ترمق الجميع خوفا على المؤونة من اقتحام مفاجئ من طرف من يعتبرهم لحظتها كأعداء المعركة، “أوساد” عماد بغى يديلي “الكوطي ديالي” ..، يسرها عماد في نفسه “حتى نشربك فالاستراحة أ الطنفوح” ! ابتسام “المسمومة” المتخصصة في “تزميم” أسماء التلاميذ المشاغبين في السبورة، لا تبالي اليوم بما يحدث في قاعة الدرس، أحضرت علبة “كلوموس”، وتحاول بكل قوة أن تمارس نوعا من “العنطزة” على صديقتها نادية المعروفة في الحومة ب “عبقرينة” على وزن “عبقرينو” بالنظر إلى تفوقها وعلو كعبها. … “بسم الله الرحمان الرحيم، إذا زلزلت الأرض زلزالها ..” (إلى آخر السورة) يرددها المؤطر ونرددها وراءه، وينتقل إلى سورة أخرى، وكأننا نعيش يوم صيامنا كما يعيشه الكبار في أجواء روحانية بامتياز. “ساساساساساد” يصيح زميل لنا فاضحا زميلا آخر لكونه لم يصم .. “ساساساساساسااساد” قل له يخرج لسانو يمعن الزميل “الصايم” في “تشهير عفوي” بزميله “الفٙاطٙر”، يتوجه المؤطر نحو الصائم من أجل إفهامه أن سلوك التشهير أمر سيء ومن الأمور التي تفسد الصيام ولن ينال الصائم أجر ذلك .. وبعد نهاية الحصة، نغادر المؤسسة ونحن نجري، والجوع يعبث بأمعائنا، ورغم ذلك نصر على لعب مباراة كرة القدم لا ندري متى تبدأ ومتى تنتهي. بعد أذان العصر وقراءة القرآن، نصر في كل مرة على تكرار سيناريو “إخراج اللسان” أمام الحضور للدلالة على الاستعداد على الانخراط في سلوك جماعي جد إيجابي منذ الصغر، ورغم كل ذلك توجهنا نحو مجموعة من أطفال “الحومة الفوقانية” في خطوة لرد الاعتبار من معركة سابقة جمعتنا ونحن نصيح “أوْكّٙالٙة رمضان، أوْكّٙالٙة رمضان”. *للتواصل مع الكاتب عبر الفيسبوك