زوجة رشيد اسمها فاطمة تجاوزت عقدها الثالث ودخلت في العقد الرابع لكن من يراها يخيل إليه أنها في العقد السادس فعوامل الزمن فعلت فعلها فيها..والتفكير في المستقبل والواقع المر الذي ترزح تحته عجل بذهاب فصل الربيع واستبداله بفصل الخريف.فاطمة طويلة القامة.. سوداء العينين تقاسيم بارزة على جبهتها توحي بعنف الزمن .أنفها دقيق..وخديها موردتين طبيعيا بدون أن تضع ماكياج ولا مساحيق تجميل وهو ما تبقى لها من فتنة الشباب..عندما تنظر إلى المرآة وتتذكر الزمن الجميل..تتنفس بعمق وتدندن ببعض مقطوعات أم كلثوم التي مازالت عالقة في الذاكرة ومخزنة في ذهنها.. قبل أن يجمع القدر فاطمة برشيد..كانت تدرس في الثانوية.كانت متفوقة بشهادة الأساتذة وزملائها وزميلاتها في الدراسة..كانت تتمتع بذاكرة قوية وحدة في الذكاء وشعلة في الذهن..لكن مع ذلك فأخوها نورالدين الذي يعتبر بمثابة الأب بعد وفاة والدها الحاج محمد حيث أصبح معيل الأسرة فحرم عليها متابعة الدراسة بعد أن وصلت السنة الثانية باكالوريا وحكم عليها أن تعيش في المنزل حتى يأتي من يتزوجها.وتدخل في كفالته وتصبح تحت رعايته. وبالرغم من رغبة فاطمة على إتمام الدراسة وتحقيق حلمها أن تصبح أستاذة وتساعد أمها على إعالة الأسرة إلا أنها لم تستطع أن ترفض قرار أخيها الذي لا تستطيع النظر إلى عينيه الحادتين مثل النسر.أو هو الاحترام الممزوج بالخوف لا تدري بالضبط ما هو ذلك الشعور أو أنه كل ذلك.. قبل اتخاذ القرار وتبليغ الأم النبأ لابنتها فاطمة جرى هذا الحوار بين نوردين وهو شاب فارع القامة أسود الشعر.مستطيل الوجه.لحية خفيفة يترك لها الحرية أن تنمو على وجهه. يبلغ من العمر 35 سنة انفصل عن الدراسة منذ سن مبكرة لم يتجاوز تعليمه السنة الخامسة ابتدائي ووالدته الحاجة أمينة - وإن كانت لم تحج, فاحتراما وتقديرا لها ينادونها بذاك اللقب - حول مستقبل فاطمة . قال لوالدته الحاجة أمينة: - فاطمة يجب أن تتوقف عن الذهاب إلى الثانوية. - لماذا يا نوردين ؟ - البنت نضجت وأصبحت جاهزة للزواج .والخروج والدخول من المنزل.سيفتح الباب للقيل والقال وهذا يطعن في شرف الأسرة. وممكن تصبح البنت عانس دون زواج.. - لكن فاطمة متفوقة في دراستها وتحقق نتائج جيدة دائما و مستقبل زاهر ينتظرها حسب ما أخبرني به أساتذتها.. - فاطمة بنت يا أمي وليست ولد وعندما تتزوج يتساوى عندها الدراسة من عدمها. فمستقبل أختي متعلق بالزواج وليس بالدراسة.. هكذا انتهى الموضوع وقبر إلى الأبد وابتلعت فاطمة القرار دون هضم.فليس لديها رأي لأنها بنت.والقرار الأول والأخير يعود لأخيها الأكبر !! صوت أمها الحاجة أمينة وهي عجوز تجاوزت السبعين عاما محدودبة الظهر قليلا وتجاعيد الزمن منحوتة على وجهها تؤرخ للزمن ككتاب مفتوح على التاريخ أو مرآة نرى من خلالها مستقبلنا وتقاسيم بارزة مرسومة على جبهتها كلوحة تشكيلية يغلب عليها الحزن والكآبة.. - فاطمة .فاطمة. أين أنت يا فاطمة؟ انتشلها الصوت من الغرق في محيط الذكريات.والندم على عدم التمرد على القرارات الجائرة لأخيها الأكبر فلو كانت فعلت ذلك لكان الأمر مختلف الآن ولما وصل بها الحال إلى هذا الباب المسدود..فتلعن الشيطان الرجيم وتتمتم بكلمات يسمع منها أنها ماحدث قضاء وقدر لا دخل للإنسان في الأمر وأخوها نوردين يحبها ويريد أن يراها في أحسن حالة وتعيش سعادتها في بيت زوجها ومع أبنائها.. - أنا هنا يا أمي آتية إليك حالا. تنفست الصعداء وفتحت صنبور الماء ثم غسلت وجهها بالماء وكأنها تحاول أن تستيقظ من بحر الأوهام و أحلام اليقظة ثم توجهت في الممر المفضي في يساره على غرفة صغيرة متواضعة تضم سرير قديم .ومقعدين من الخشب موزعين بين السرير.ومصباح كهربائي يتدلى من وسط الغرفة وعلى الحائط جهة اليمين يوجد إطار كبير يضم بين ثناياه صورة لرجل يبدو في عقده الخامس قصير القامة, كثيف الشوارب حليق اللحية يضع نظارات سوداء على عينيه.ربما الصورة تعود لزوج الحاجة أمينة.وهو في ريعان الشباب والزهو بالقوة والفتوة..