سقطت آخر جدران الحياء عن وجه بنكيران، أو لنقل عن الوجه الذي كان يلبسه إبان فترة "المعارضة". فصرح على رؤوس الإشهاد لمحاوره "موظف قناة الجزيرة" بأن لا مشكل لديه مع المفسدين و"عفا الله عما سلف". شكل التصريح جزء من البرنامج الحكومي غير المعلن، وتطبيعا جديدا هذه المرة مع "التماسيح" و"العفاريت" التي كانت تطلع لرئيس الحكومة في أحلامه. الفتح "الحكومي" الجديد يعلن أيضا أن من دخل بيت المخزن فهو آمن، ومن دخل بيت بنكيران فهو آمن. والولاء ثابت للفساد. إن التصريح هو تطبيق حرفي لأجندة مسبقة الصنع، تتمثل في محاولة امتصاص الغضب الشعبي بشعارات كبيرة حملها حزب العدالة والتنمية في فترة الانتخابات القسرية لتتماهى مع المد الشعبي الذي أفرزته حركة 20 فبراير. ثم تفريغ الاحتجاجات من مدلولها بتمرير سياسات لا شعبية تكرس الحفاظ على بنية الاستبداد وضمان استمرار الفساد المستشري في أوصال الدولة. في الإطار، لا يشك أحد اليوم في اليد الطولى لماما أمريكا وحلفائها في إعادة تقرير مصير شعوب المنطقة من خلال "احتضان" الثورات والمعارضين، وتسويق الحلفاء الجدد كبديل تاريخي للحكم بدل أنظمة "استنفذت مدة صلاحيتها". وعبر التاريخ كانت القوى المحركة سياسيا واقتصاديا لمصائر الشعوب أدوات لا واعية تخرج من القمقم ماردا اسمه الصوت الأصيل للشعوب، يستطيع أن يقلب الجن عن المجن، وذاك شأن القوى الاستعمارية التي دخلت ل"تمدين" الشعوب الهمجية، وخرجت ذليلة تحت نيران المقاومة الوطنية التي لم تستطع أن تلملمها جبة التواطؤ مع الاستعمار. "الجماعات الدينية" التي ينحدر من سلالتها الحاكم بأمره رئيس وزراء المغرب اشتغلت في "الظل" لعقود، وجربت قوتها في حرب طويلة مع معسكر "الإلحاد" و"العلمانية"... وهي اليوم عنوان وكالات الأنباء تكتسح صناديق الاقتراع وتبشر بتطبيق "شرع الله". وإذا كان الخطاب الديني العائم وآلياته المغرقة في العمومية شكل ولفترة طويلة مصدر عزاء للمعذبين في الأرض ممن استنزفت خيرات أوطانهم، فإنه في المشهد السياسي الحالي يستعرض نفوذه إعلاميا وتنظيميا مدعوم بطاحونة مالية خطيرة. فجماعة بنكيران التي كانت محظورة تستعرض في مؤتمرها كما استوعب حتى الصهاينة بين ظهراني المؤتمر، في خضم حضور رموز جماعات جهادية ارتقت إلى مصاف النجوم. وإن اختلفت طريقة تنصيب "الأحزاب الدينية" في سدة الحكم تبعا لإرادة الحاضن الأكبر والحاضن الأصغر، فهي مجتمعة مطالبة بقوة الواقع وارتفاعه أن تنزل إلى "الأرض" وتدنس أياديها "الطاهرة" بمشاكل المديونية والبطالة والتعليم وغيرها من تفاهات الحياة الدنيا. المساحات الفارغة التي شكلتها أنظمة استبدادية من قبيل الكراكيز المطاح بها مثل بنعلي ومبارك والقذافي، استغلتها أنظمة آل سعود وآل نهيان لتبرز بها أنها نافذة بقوتها المادية ولوجستيكها المستورد لتكون حاملة لواء "الديمقراطية" في المنطقة لأمريكا وأخواتها. والسخط الشعبي المكبوت لسنوات ينشد الخلاص تحت أية يافطة جديدة، فكيف لا في عزائه القديم حيث الحنين إلى عهد "السلف الصالح". وإذا طوينا مسافات البعد الإقليمي، وقربنا الصورة لتصل إلى ما نعيشه في المغرب، سنجد أن "الاستثناء" مثلته حكومة "الخلاص" المنصبة على أكتاف ملايين الصرخات التي اكتسحت الشارع لتطالب بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، المصممة على إسقاط الاستبداد والفساد كعملة ذات وجهين أصبت ممنوعة من الصرف في قناعات الشعب المغربي. ولأن مشمش الأربعين يوما اكتملت فترته، فقد خرج "الصدر الأعظم" بلسانه الطويل وربطة عنقه الطويلة ليشغل المسرح بقرارات خطيرة وبتصريحات أخطر تجتمع في خطاب حكومي لا يمكن نعته إلا بصناعة نوع جديد من عملاء الفساد في المغرب. فجلد المعطلين والتراجع عن قرارات الحكومة السابقة لتكريس هيبة الدولة، وجلد الفلاحين وأبنائهم لكي لا تتراجع الحكومة عن التزاماتها تجاه الشركات الإسبانية ضمانة لهيبة الدولة. وجلد واعتقال نشطاء حركة 20 فبراير والأصوات المعارضة والتضييق على حرية الرأي والتعبير والحق في التظاهر والاحتجاج وتمرير قوانين "الحماية" و"الحصانة"، والرفع من أثمان المحروقات وما تلاه من زيادة صاروخية في الأسعار، وإرجاء الإعلان عن المستفيدين من كل اقتصاد الريع وغير ذلك منشور في الصحف لا يكفي......... فبنكيران فارس العهد الجديد، ضامن استمرار موازين ورقص شاكيرا....وخليل "أهل الفتوى" الذين ينصحون الشعب بالتنفيس عن كبته بالجزر ويد المهراز يكمل "حفل الولاء" للفساد بقوله لمجرمين نهبوا الجو والأرض والبحر"اذهبوا فأنتم الطلقاء". الشباب الناقم أطلق على الصدر الأعظم "فرقة عفا الله"....مع الأسف أنه لا يتصرف في ماله أو في شؤون جماعته، بل يتصرف في مصيرنا جميعا. ويكرس خطابا يتعاقد قولا وفعلا مع الفساد، ويصدر فتوى محكومة بالعرش الذي يجلس عليه فوق خازوق. وإذا كان استمرار المسؤولين عن الجرائم السياسية وسنوات الرصاص قد استطاعوا الإفلات من العقاب ب"عدالة انتقالية" توافقية مع حكومة التناوب. فإن المسؤولين عن الجرائم الاقتصادية والاجتماعية ممن يتحملون المسؤولية في نشر الآلاف المعطلين في الشوارع والمستنزفين لأموال مشاريع الوهم المسوق للشعب والناهبين للصناديق والقابضين على "الريع" ومشتقاته....يبشرهم بنكيران بالإفلات من العقاب. ربما لن تطلع العفاريت والتماسيح في كوابيس بنكيران، ولكن أحلامنا لن تتحقق إلا بإسقاط الاستبداد والفساد وعملائهم.