على بعد 15 كيلومترا جنوبأكادير، تربض مدينة آيت ملول، أو مدينة العبور على اختلاف التسميات لدى قاطنيها. أول ما يشد انتباهك عندما تبلغ وسط المدينة، مع التباشير الأولى للصباح، تجمع للنسوة في مكان يدعى "الموقف"، في محاولة حثيثة للظفر بفرصة عمل في الحقول والضيعات الفلاحية الموجودة بالجهة، يحملن زادهن اليومي وأدوات عملهن المختلفة باختلاف طبيعته. عاملات لا يعرفن من مدونة الشغل سوى الاسم، غير منتميات لأي جمعية، أو نقابة... فضلن الانزواء وراء صمتهن تارة، وانكساراتهن تارة أخرى، يحلمن بواقع جديد كما بشرت به الموائد الفكرية لمناضلات وحقوقيات وسياسيات ومثقفات... على أنغام موسيقى أحواش وبلكنة أمازيغية نابعة من عبق التاريخ يرحب بك أهل سوس وتفتح لك منطقة آيت ملول، الواقعة في الجنوب الغربي للأطلس الكبير قرب مدينة أكادير، أراضيها العذراء التي زحف عليها الاسمنت، والبناء العشوائي. لابد لزائر المنطقة أن يلتقي بفتيات في مقتبل العمر وأرامل ومطلقات يحترقن في صمت، يخفين رؤوسهن وملامح وجوههن، من خلال أثواب تغير لونها بفعل الحرارة وكثرة الاستعمال حتى لا يتعرف عليهن أحد، ويتحولن إلى عاملات "النينجا" في محاولة بريئة للحصول على عمل في ضيعة فلاحية للخروج من عتمات البطالة في منطقة تعج بالمآسي الاجتماعية. يضم "الموقف" نساء قادمات من مختلف مدن المغرب خاصة من الخميسات، وبني ملال، وضواحي مراكش، وقلعة السراغنة، ومراكش، وآسفي وغيرها من المدن المغربية، يفنين سنوات من عمرهن في العمل بالضيعات، من أجل الحصول على مبلغ يومي لا يتجاوز 50 درهما في أحسن الأحوال، مقابل ساعات طويلة من العمل في منطقة يحتل القطاع الفلاحي فيها مكانة مرموقة ويلعب دورا مهما على المستوى الجهوي والوطني في الجانب التمويني والإنتاجي والتسويقي.
معاناة بصيغة المؤنث درجة الحرارة منخفضة، لكن شمس الخريف تحرق الوجوه بأشعتها. يحتاج الوصول إلى بعض الضيعات الصغيرة، المشي لمسافات طويلة، إذ يتطلب الأمر أحيانا اجتياز حواجز كثيرة كسواقي المياه. الكل هنا يعمل بجد ونشاط، داخل ضيعة صغيرة خصصت لزراعة النعناع، تزحف فتيات على ركبهن لأجل تنقية أحواضه من الأعشاب الضارة. يرتدين سراويل صوفية كي لا يصبن بخدوش. يدل العرق المتصبب على جباههن على حجم الجهد المبذول في هذا العمل المضني. تروي بشرى (25 سنة) سبب امتهانها هذا العمل: "والدي مصاب بمرض مزمن منذ سنوات وليس لي إخوة لتحمل المسؤولية والتكفل بأسرتي المكونة من 6 أفراد فاضطررت لهذا العمل رغم قساوته". تدخل زميلة لها على الخط :" العمل هنا شاق، لكن ظروفنا المعيشية القاسية دفعتنا إليه، فمنذ أن بلغت سن السادسة عشرة وأنا أعمل أجيرة في الفلاحة، فلو كان لي إخوة ذكور لتحملوا عبء المسؤولية ولجلست في بيت والدي مصونة الكرامة، ولكن الحمد لله على كل حال". تتنهد زميلتها بحرقة وأعادت لف وجهها بثوب يقيها حر الشمس وقالت "مع ذلك نحن محظوظات بهذا العمل فكثيرات منا يعدن يوميا إلى بيوتهن خاليات الوفاض،بعد فشلهن في إيجاد فرصة عمل تقيهن العوز". وبعيدا عن ضيعة النعناع، توجد ضيعة خاصة بزراعة الطماطم، صاحبها من الكونغو، اختار المغرب للاستثمار والعمل في الفلاحة. بعد أن درس بالمغرب، وبالضبط بمعهد الزراعة والبيطرة، وبعد أن عمل بمزرعة، وجد ماكس نفسه وسط عالم الفلاحة الذي دخله من أبوابه الواسعة. يقول الرجل إنه اكترى ما يقارب 30 هكتارا وحولها إلى ضيعة فلاحية واستثمر فيها خبرته في هذا المجال. وأضاف صاحب الضيعة، أن اليد العاملة بالمقارنة مع السنوات الماضية، أصبحت تفرض العديد من الشروط، إذ أنها ترفض العمل ساعات طويلة، وفي الوقت ذاته أصبح أجرها مرتفعا. وأشار المتحدث ذاته، الذي لم يترك الفرصة تفوته للحديث عن ظروف العمل التي يعانيها أصحاب الضيعات، دون استثناء، حتى إن كانوا أجانب، والحديث عن المصاريف التي يتكبدها الفلاح من أجل تحسين الإنتاج، إلى أن الوضع أصبح أكثر تأزما بالمقارنة مع السنوات الماضية، سواء من جهة الإنتاج أو اليد العاملة.
سعاد والضيعة اضطرتهن ظروفهن القاسية إلى الخروج كل يوم باكرا بهدف الحصول على عمل في الضيعات الفلاحية. نساء يحملن زادهن اليومي من خبز وشاي وماء وحليب يكفي لسد الرمق طيلة اليوم، "يحشرن" كل يوم مثل "الأبقار" داخل شاحنة أو سيارة من نوع "بيكوب" أو يحملن على متن جرار، في سفر نحو المجهول. سعاد عاملة تجاوزت الأربعين سنة ما تزال تحتفظ برصيد وافر من أحداث وتفاصيل سنوات من العمل في الضيعات "أمضيت ما يقرب عقدين في العمل بحقول الكروم والحوامض بضواحي بيوكرى، ذقت فيها مرارة العيش وسط قساوة اعتبرتها لحظة عابرة سرعان ما ستمحوها تلك الدراهم التي أحصل عليها إلى جانب رفيقات لي ينتمين لقبيلتي، وبينما كنا ننهمك في أداء ما يطلب منا ظلت عيون كبير العمال أو "الكابران"، المسؤول عن العاملات، مفتوحة يعد بها دقائق الساعة الواحدة حتى غروب الشمس. وكان يوم نهاية الأسبوع أو الأسبوعين فرصة لنسيان ما بذلناه من مجهود وما تصبب من عرق لأنها لحظة نتوصل فيها بمستحقاتنا، بينما كان كبيرنا يحصل على ضعفها ومساعده على أجرة واحدة منا أو أكثر لكنه لم يكن يحظى باحترامنا، فهو في نظرنا مجرد وسيط يتسلل بيننا لالتقاط ما يدور من حديث ينقله على وجه السرعة، بعد أن يضيف عليه أو يحرفه حسب غرضه في الشخص المستهدف، وغالبا ما كان يعمد إلى ابتزازنا مقابل التغاضي عن تصرفات إحدى العاملات وحين كان يلهب غضبنا كنا نناديه "أشكام" عبارة تدفعه إلى الانتقام بطرد من يتطاول عليه أو حرمانه من أجرة يوم أو يومين".
عاملات بمواصفات خاصة الساعة السادسة صباحا، سيارات "البيكوب" بدأت بشحن الرجال والنساء معا. هناك تلاصقت الأجساد واختلطت الأنفاس، إلى درجة أن البعض منهم اعتقد أن الهواء تبخر ونفد. بعد دقائق من السير مرورا بطرق غير معبدة، وصل "البيكوب" إلى ضيعة فلاحية، وهناك تفرق الجميع، وابتدأ العمل، وهناك أيضا تتعرض الكثير من النسوة للاستغلال الجنسي والتحرش اللفظي والجسدي في "تواطؤ" مباشر من قبل المشغل والعاملين معهن في الضيعة نفسها، ومن طرف "الكبران"، إذ يحرص بتنسيق مع المكلفة باختيار العاملات على توفرهن على مواصفات خاصة، سيما أن أيت ملول أصبحت، نقطة جذب لليد العاملة بل أصبحت أكبر منطقة للاستقطاب في المغرب، إذ تأتي أفواج من العاملات والعاملين من كل المدن المغربية، فلا غرابة أن تجد في ضيعة فلاحية واحدة عاملات يتحدرن من مدن متعددة من كل جهات المغرب، وتشكلت بذلك أحياء جديدة آهلة بالوافدين الذين يفضلون السكن في نواحي المدن حتى يستفيدوا من انخفاض سعر القطع الأرضية وكي يبتعدوا عن غلاء المدن وعن ٲعين السلطات، فيبنون مساكن أشبه بالبراريك ويسكنون بشكل جماعي ما يفتح الباب على مصراعيه أمام تفشي مختلف الأمراض واستفحال ظواهر السرقة والجرائم...
وتستمر المعاناة تبدو الصورة قاتمة شيئا ما، لكن الواقع يستدعي تدخلا عاجلا لوضع حد لاستغلال عاملات ذنبهن الوحيد أنهن رغبن في كسب لقمة حلال بعرق جبينهن. نساء لا يعرفن شيئا عن المنظمات النسائية المغربية، ولم تستطع برامج وشعارات هذه الأخيرة تحقيق المساواة والكرامة لهن. من جانبه، أكد بوبكر بن سيهمو، رئيس المركز المغربي لحقوق الإنسان فرع شتوكة أيت باها، أن الأخير استقبل عددا من الملفات تتعلق بالابتزاز والتحرش الجنسي بالعاملات في القطاع الفلاحي، غير أن المشتكيات في الغالب لا يتابعن مسار ملفاتهن. وأضاف بن سيهمو أن المركز يطالب بتحقيق مطالب الطبقة العاملة، والتي من بينها توفير الظروف الملائمة للعمل، مشيرا إلى أن من الضروري أن تخصص حافلات ملائمة لنقل النساء العاملات إلى الضيعات الفلاحية، إلى جانب معاقبة الأشخاص الذين يستغلون النساء ويتحرشون بهن، ومتابعتهم قضائيا. وفي السياق ذاته، جاء في بحث لجمعية التضامن النسائي، أنجزته منذ نحو سنة، أن العاملات لا يعرفن شيئا بخصوص حقهن في التأمين على حوادث الشغل. فأغلب أرباب الضيعات الفلاحية يتملصون من التأمين على العاملات ورغم ما يتعرضن له من حوادث فإنهن لا يستفدن سوى من دريهمات يجود بها رب الضيعة للمتضررة كي لا تطالب بحقها في التأمين، ودون أن يكلف نفسه عناء تعبئة الوثائق اللازمة لكي تستفيد العاملة من التأمين. وكشف البحث الميداني أن معظم العاملات يتحدرن من أصول فقيرة هاجرن من مناطق مختلفة من القرى والمدن المغربية (الجديدة، وبني ملال، ومراكش، وآسفي، والفقيه بن صالح، والصويرة...) لأسباب اجتماعية مختلفة نحو مدينة أكادير بحثا عن فرصة عمل، مهما كانت شروطها وظروفها من أجل إعالة أنفسهن أو أسرهن. وتسكن غالبية العاملات إما في غرف مستأجرة أو بيوت في الأحياء الهامشية للإقليم ويتراوح عمرهن ما بين 15 سنة و60 سنة، غالبيتهن نساء أميات بنسبة (53 في المائة) أو متعلمات، لا يتجاوز مستواهن الدراسي الإعدادي، ما يجعلهن غير مؤهلات لولوج سوق عمل يتطلب كفاءة معينة. وصنف الإقليم في الرتبة الأولى من حيث انتهاك حقوق الإنسان وحقوق الطفل الذي يزج به في العمل الشاق منذ صغره.
تجارة "الرقيق الأبيض" تحتفظ الذاكرة الشعبية بأيت ملول ومنطقة بيوكرى، وآيت عميرة... بأخبار وقصص مؤلمة وتصور مشاهد ولحظات صعبة من لحظات "استرقاق" المرأة العاملة والدوس على كرامتها من طرف "الباطرونا" وأرباب الضيعات الفلاحية في ظل صمت مطبق من طرف المنظمات العاملة في مجال الدفاع عن حقوق المرأة، وكذا بعض الهيآت النقابية التي تقايض كرامة المرأة العاملة ببعض الإغراءات المادية، فرغم حرص مدونة الشغل على صيانة كرامة العاملات وحماية حقوقهن من الاستغلال البشع، فسعي بعض أرباب الضيعات لجني الأرباح يجعلهم يتحايلون على القانون ويتلاعبون بما جاء فيه من بنود مما يفرغ المكاسب الجزئية التي حصلت عليها المرأة العاملة من مضمونها. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، إذ أكدت دراسة لإحدى الجمعيات المحلية بآيت ملول، أعدت منذ حوالي سنة أن اختيار هؤلاء النسوة للعمل في الضيعات الفلاحية يقوم على معايير وممارسات تشبه تلك التي كانت سائدة في سوق النخاسة في القرون الوسطى، إضافة لتعرضهن للمهانة والاستغلال والتحرش الجنسي.