ذ.محمد بدران لم يكن الأمر يتعلق بتسجيل حيّ لشريط بوليسي بلجيكي على مدرج مطار بروكسيل الدولي كما سيعتقد القارئ الكريم، وهو يقرأ هذه السطور المتناثرة بين جناح الخيال والواقع في سماء الدهشة والحيرة والاستغراب.بل هي عملية حقيقية أبطالها 8 مجهولين مؤججين بالسلاح استطاعوا في ثلاثة دقائق بخطة غريبة ومهنية واحترافية عالية، أن يسطوا على طائرة سويسرية قبل إقلاعها بدقائق وسرقة كمية ضخمة من الماس الخام وصلت إلى 10 كيلوجرامات.والتي يفوق سعرها في السوق الدولية 50 مليون دولار مستخدمين تقنية الميم الخرساء دون إزعاج الركاب أو إراقة الدماء ،وباستعمال سيارتين داخل مدرج الطائرة دون إثارة الشكوك أو إعاقة الرحلات الجوية وإعاقة الأجواء.فتكون بذلك عملية القرن بامتياز الأكثر إتقانا والأسرع على الإطلاق في تاريخ الطيران،والتي فاقت مثيلتها بمدرّج مطار أمستردام في 25 فبراير من سنة 2005 التي أفضت إلى سرقة شحنة من الماس الخام فاقت مبلغ 90 مليون أورو لم يعثر عليها لحد الآن. وإليكم أعزائي تفاصيل سيناريو هذه العملية التي أدهشت النفوس وأذهلت العقول باختصار وإيجاز، ثمانية ملثمين بزي الشرطة البلجيكية يمثلون خطة على قياس يسطون في وقت قياسي لا يتعدى ثلاثة دقائق على كنز من الماس دون مجازر أو مآس. ابتدأت العملية النوعية عشية يوم الاثنين 18 فبراير على الساعة السابعة و45 دقيقة داخل طائرة للخطوط الجوية السويسرية المتوجهة لزيوريخ والتي كانت جاثمة بمدرّج مطار بروكسيل الدولي،بعد ثانية من امتلاء سطحها بالركاب وقبل ملء بطنها بما تبقى من حمولة أكياس الذهب والماس قبل انطلاقة الإقلاع على تمام الساعة الثامنة وخمسة دقائق التي يسهر عليها رجال برينكس والحراس. كانت لهم 12 دقيقة فقط لوضع شحنة 120 كيس من الأحجار الثمينة من الماس والذهب داخل الطائرة المتوجهة مباشرة إلى زيوريخ في رحلة طيران رقم 2L789 حسب الأوامر والطلب. شاءت الأقدار أن تبيت هذه الأحجار الكريمة خارج الخزانة الآمنة دون حراسة مشددة ودون ترك بصمات أو آثار،وعلى بغثة مفاجأة غطت أنوار إشارات سيارات الشرطة الزرقاء ضباب السماء التي كانت تغزو مدرج الطائرات حيث تجثم الطائرة السويسرية في انتظار إشارة الإقلاع ذلك المساء. التفت أحد رجال الحراسة التابعين لشركة "برينكس"زيكلير للخدمات الأمنية إلى جهة الأنوار المقبلة عليهم بسرعة البرق وهمس في مسامع زملائه"الشرطة قادمة اتجاهنا"فلم يكترث له أحد والكل منهمك في الإسراع بإفراغ الحمولة داخل الطائرة بين نسيم الهواء ودفء العرق.في 40 ثانية على أكبر تقدير كانت الشرطة أمامهم بحركة غير معهودة تطوي الطريق طي الحصير ،على مثن سيارتين سوداويتين،سيارة شحن مرسيدس وسيارة أودي A8 تتبعها في الحركة والسكون طول المسير ،دون أي إشارة أو أدنى كلمة ما عدا رفرفة الضوء الأزرق المنير. قبل إقلاع الطائرة بدقائق قليلة وبسرعة فائقة ليس لها متين توقفت السيارتان فإذا بكل أربعة من الشرطة المقنعين ينزلون من إحدى السيارتين، وهم يعانقون سلاحا رشاشا أوتوماتيكيا يشتغل بأشعة الليزر المثير،منهم من وجهه اتجاه قائد الطائرة ومساعده ومنهم من تكلّف برجال الحراسة والحماية ،والبقية تكلّفت بإعادة نقل الشحنات القيمة من الطائرة إلى سيارة الشرطة المزعومة في النهاية. لم تكن العملية هذه تتطلب محادثة أو تفاهم ،فخزانات الطائرة مليئة بالوقود القابل لاشتعال في كل لحظة وحين، وأرواح المسافرين حبيسة أحزمة المقاعد تترنّح بين عالم المجهول وواقع التزاحم. وأي حركة ولو يسيرة ضد المهاجمين تفضي إلى فتح أفواه الرشاشات الأوتوماتيكية لتمطر الموت والأخطار، في صدور المعارضين والركاب الآمنين ويحدث كارثة عظمى في كل مدرّج المطار. لم يستطع أحد من رجال الحماية أن يحرك ساكنا أو يستعمل سلاحا لصعوبة الموقف البئيس، بل اقتدى كغيره برفع يديه لتتقيّد وراء ظهره بينما اعتكفت البقية في ولوج بطن الطائرة لإخراج 120 كيسا من الذهب وأحجار الماس ويحمّلونها على مثن سيارة المرسيدس. في تمام الساعة السابعة و45 دقيقة كانت خطة العملية قد اكتملت على آخرها ووصلت إلى نقطة نهايتها ،أصدر قائد الفرقتين حينها أمره المطاع بمغادرة مسرح العمليات بإشارة سريعة بلا كلام واستدار نحو المكبلين رافعا يديه بالشكر وتحية الوداع .واختفت عن الأنظار ثمانية أشباح داخل السيارتين السوداويتين في سباق مع الريح نحو الثقب الأسود بجدار جنوب المطار يؤدّي إلى الطريق السيّار،ذلك الممرّ الذي فتحوه وراء عيون الكاميرات ومراقبة حراسة المطار ،ليخرجوه كما دخلوه أوّل مرّة ويكملوا السباق مع الوقت ماحين للتعقّب أي علامة ممكنة أو آثار عدا رائحة الدخان وطعم الغبار. دون إطلاق رصاصة في هذا الهجوم ودون سقوط ضحايا في الحصار استمرّت كل الرحلات الجوية إلى مقاصدها في مواعدها ماعدا الرحلة رقم 2L789 التي اكتفت بالإلغاء بقرار من شرطة المطار. بعد دقائق من الحادثة تأتي الشرطة من جديد متعطلة بعد الدقائق لمسرح الجريمة، لكن هذه المرة لم تكن تلك الشرطة الظريفة التي لم تكلم ولم تؤدي أحدا في القيام بمسؤوليتها الوظيفية ،بل كانت الشرطة الحقيقية التي لم يملأ وجودها عيون الحاضرين بعد فوات الأوان وهروب أولئك الجناة. لم يكن أحد من المسافرين يعلم بما حدث وجرى في وقت قياسي لا يصدق بالمرّة،في حين لم يعرف قائد الطائرة ولا مساعده كيف يفسران من كثرة الهول وشدة الصدمة حلقات ذلك الشريط السريع الذي شاركا فيه على الهواء الطلق مع أبطال وفنانين في السطو والجريمة .في حين علا دخان احتراق سيارة المرسيدس بالشمال الشرقي لمدينة بروكسيل يبعد بعض الكيلومترات عن سماء المطار لكنّ المقنعين والحمولة المليونية من الأحجار الثمينة غابوا عن الأنظار بصحبة سيارة أودي السوداء. كان هذا الخبر بمثابة صاعقة على معامل نادي الماس بأنفرس الذي يروّج على الصعيد الدولي كل سنة 84% من الماس الخام ،ويذر ما يفوق 40 مليار أورو أرباحا كل عام. وكانت خسارة كبيرة على مقطّعي الماس والتجار،كما أعلنت كارولين دي وولف المتحدثة الرسمية لنادي الماس بمركز أنتويرب العالمي للماس. في ثلاثة دقائق اختفت عشرة كيلوجرامات من الماس الخام التي يقدّر ثمنها ب 37 مليون أورو والتي كانت ستوزع في الأخير على جميع مشترييها ،وعلى كل المقتنين الذين حاولوا إرسال قطع الماس إلى الخارج من أجل خدمتها وتقطيعها. ففي كل يوم يتمّ إرسال واستقبال أحجار كريمة وشحنات قيّمة من وإلى مطار بروكسيل بالنهار وبالليل ولم تحدث في يوم مثل هذه النتائج ،بالتأكيد سننتظر وستنتهي البضاعة المسروقة إلى يد مشترين جدد وسيضطرّ المالكون الحاليون من تقطيعها بالخارج. وتساءلت السيدة دي وولف : كيف يمكن أن تلج سيارتان إلى مدرج الطائرات؟ وهذا حدث غير مسبوق في عالم الطيران،وما الفائدة من فتح ملف للقضية لذا الشرطة القضائية إذ كنا نعلم أن استعادة البضاعة شيء ليس بالسهل في أغلب الأحيان ؟ تحرّكت آلة التحقيق على وجه السرعة لبداية تحقيق بمكان الحادثة، كما أنه من المرجّح حسب الخبراء أن يجرى بحثا عميقا داخل حقل الماس للوصول إلى أي خيط يرشدهم إلى جهة معينة تكون وراء الحادث أو لها يد فيما وقع. و تبقى عشرات الأسئلة مطروحة في نهاية هذا السيناريو الجميل والمرشّح أن يكون سيناريو شريط طويل ،هل بإمكان شركة أو شركات التأمين التي سبق أن تعاقد معها نادي الماس البلجيكي ستقدر على تعويضه عن هذه الخسارة؟وكيف سيتحقق خبراء التأمين من أن النادي غير متورّط في هذه العملية المليونية بالنطّ على الحبلين البضاعة والتعويض؟وهل حادثة القرن هذه ستأثر بالفعل على مدينة أونفرس عاصمة الماس العالمية في المنافسات الخارجية ؟وغير ذلك من الأسئلة التي تديّل هذا المقال. أخيرا راودني هذا السؤال وأنا أشرف على نهاية هذا المقال،كيف تنام عيون السادة الذين يملكون الذهب والماس والمليارات في كل مكان من هذا العالم الذي يعرف منهم أعدادا وألوانا ، وهم يعلمون أن العامة تتدهور جوعا في رحى المآسي و الحرمان ،ليس لها من وراء عرق الجبين إلا قوت يومها في عالم لا يؤمن بالتعاطف بين الفوارق الاجتماعية ولا بالتواصل والحنان، بقدر ما يهتمّ بالتفرقة والتفريط واللامبالاة ؟.