قد تصيب المواطنَ حدةُ التطبيل والتزمير للدستور الجديد بأكثر من الضجر والسأم، لتغمسه في مستنقعات الإحباط والغثيان. إذ اصطفت الأحزاب السياسية الفاسدة والصحافة المرتزقة وأتباع الزوايا والأضرحة ومريدو الطرق الصوفية وأصحاب الكرامات ممن أنقذوا الإسلام من الضياع ببدعهم وأكملوا نقصه بإضافاتهم، في طابور خامس طويل عريض لم يعد يعي جنون أقواله وحماقة أفعاله بعد أن طال به انتظار صلاة الجنازة على مستقبل المغرب. وحتى لا نظلم الطابور الخامس، لابد أن نعترف له بوفائه بعهد الخيانة. تاريخه أسود وأرشيفه يشهد له في فترة الاستعمار القديم وفي عهد الاستعمار الجديد بانتهازيته وفرصويته وفساده في سعيه وراء تكديس الثروات واحتكار السلطات وتملصه من خدمة مصلحة الوطن والمواطنين. تاريخ مقزز ومعروف لا داعي لاجتراره كلما طال الحديث سيرة حمار طروادة. نتمنى لجاهله أن يتعلمه ويتدبره، ولا ندعو لمنكره إلا بأن يستفيق من غفلته قبل فوات الأوان. ولا مجال للاستغراب في هذا الباب، لأن الطابور الخامس لا يلعب إلا دوره في سيناريو قديم بطبعة جديدة، وفي لقصة نشأته ومراحل تطوره في الخيانة والعمالة والنفاق السياسي. وعلى كل حال، إذا لم يكن هناك بد من استطلاع الخير في الشر ووصل اليأس بالأمل، فإن هذه المخلوقات التي استضافت نفسها بنفسها في جوف حمار طروادة، والتي يبدو من كلامها وسلوكها أنها تعيش في كوكب آخر، تكون قد نزعت آخر قناع عن وجهها الحقيقي وفوتت آخر فرصة لتصحح مسارها المنحرف وتكفر عن تاريخها الأسود. لم تنتظر طويلا ولم تفكر مليا بحكم حساباتها الآنية الأنانية وقصر نظرها الذي لا يرى أبعد من أنفها، قبل أن تراهن مرة أخرى على القوي ضد الضعيف. متتنكرة لمطالب جماهير شعبية تريد أن تقنعها بدون حرج بالتصويت بنعم على الدستور وقول لا لكروية الأرض. يكون هذا بعد أن كذبت على المواطن وتحرت الكذب حتى كتبت عنده كذابة، فلم يعد يأخذ كلامها على محمل الجد، ولم يعد ينصت لثرثرتها إلا بأذن السخرية والتفكه. كان من المعقول ألا يستمر عاقل في تصديق هذه الكائنات المريخية بعد أن تزامن نقدها الذاتي ورغبتها في الإصلاح مع الثورات العربية بمحض الصدفة، بعد عقود من المثابرة على نهج سياسات التفقير والتجويع والتجهيل والتهميش والقمع والاستبداد. ولكن الأغلبية الصامتة اختارت ألا تسلبهم حقهم في التوبة، وأن تراقب الأحداث من بعيد، لعل قطار التاريخ يستثني المغرب ويعفيه هذه المرة، من رحلة نحو المجهول لا يشك أكثر المسافرين تهورا في أنها محفوفة بالمخاطر. يقولون أنهم يريدون أن يجنبوا البلاد ما آلت إليه تونس ومصر وليبيا، كما لو كانوا يلومون هاته الشعوب على بطء الفهم عند ابن علي، وعسره عند مبارك واستحالته عند القذافي. ولو كانوا حقا صادقين هذه المرة، بعد أن يكونون قد فقدوا عقولهم الحربانية وطرقهم الملتوية، لكانوا سارعوا باستئصال الفساد المتجذر في أرض الواقع عوض الالتفاف على مطالب الشعب بطواحين الكلام ذي المنطق المريخي في وصف أحلام الديمقراطية الوردية وأفلام دولة الحق والقانون تكنيكولور. لكن يبدو أنهم مالوا لتصديق أصحاب المصالح في الخارج وترجيح كفة أوليغارشيا الفساد في الداخل، من المطبلين المزمرين لنوايا الإصلاح ووعود التغيير من قبل أن يسمعوها. خصوصا أمام قلة عدد المحتجين وتباين مطالبهم واختلاف دوافعهم وتعارض مشاربهم وتناقض مذاهبهم. كما يبدو أنهم يراهنون إلى حد ما، على طفيلية الطبقة الوسطى وجهل الجماهير الشعبية وقلة وعيها، ثم على رحمة التاريخ وعبث الأقدار إلى أبعد الحدود. إن حركية الإصلاح المندفعة من جار إلى جار وتشابه الشعوب العربية في المذمات قبل المحامد، لا يرجحان فرضية الاستثناء المغربي إلا في عقول استثنائية تريد أن تتملص من قراءة راشدة وتأويل ناضج لما تعرفه المنطقة من تحولات لا راد لها ولا رجعة فيها، بقراءات وتأويلات بديلة استثنائية. باستعادة الماضي القريب، تبدو الشرارة التي أشعلها البوعزيزي فأضرم بها نار الثورة في تونس فعلا عوليسيا وملحمة إغريقية. وبالعودة إلى ماض ليس بأبعد، قد يكون من المستحسن - بمعنى من الضروري والمستعجل - أن تبادر الدولة إلى تسوية حساباتها العالقة مع الريف في أقرب وقت، وأن تستخلص العبرة التاريخية من هدوء الجماهير الشعبية الذي لا يبشر إلا بقدوم العاصفة في أقرب أجل. http://gibraltarblues.blogspot.com