بالأمس القريب، لم تكن الصحافة المنافقة تبخل على رشيد نيني بشنيع الصفات وقبيح النعوت، وتذيقه من سمومه التي تفنن في طبخها بالسب والقذف واللعن والتنابز بالألقاب وتلفيق التهم وتبادل العبارات النابية التي يندى لها جبين القارئ ولا يخجل الصحفي من استعمالها وإعادة استعمالها. وأطلقت الصحافة العنان لمخيلة مبدعة لا تستحضرها إلا في مقالات التجريح وتحليلات التهريج، وتغيب عنها في سائر الأيام. فوصفت نيني بسلسلة من النعوت الاستراتيجية كرأس الرضاعة وقالب السكر والطابق العلوي لمركبة ديسكوفري ولاعب البيزبول والسمسار ورمز الحزب الديموقراطي الأمريكي (بمعنى الحمار). واتهمته بأنه (باع الماتش) و (قلب الفيستة) و (كاري حنكو) ونصحته بأن (نيني يا مومو ولا تستيقظ من بعد نومك أبدا.) وبعد كل هذه الملحمات والمغامرات، تقلب الصحافة الدفة مائة وثمانين درجة، وتدافع عن نيني بعد اعتقاله بتهمة فضفاضة جامعة مانعة لا يسلم من بطشها العبثي أربعون مليون مواطن. تدعى في المغرب " تهمة المساس بأمن وسلامة الوطن والمواطنين"، وتعرف في بلاد الله الواسعة "بجنحة الرأي". جد الصحفيون واجتهدوا، فوجدوا لنيني أسبابه في اتخاذ أسلوب السب والشتم وهتك الأعراض، وامتهان تلفيق التهم وبث الأحكام في جلسة-مقالة واحدة، واختلقوا له معاذيره في تذبذب خطه التحريري من النقيض إلى النقيض. ليس الغرض هنا لا الدفاع عن نيني - وهو أدرى الناس بما فعل ويفعل وما سوف يفعل، ولا الاستغراب المبتذل من غياب حرية التعبير، ولا جرد محامد الصحافة ومذماتها. لكن المواطن العادي لا يملك إلا حاسة البصر أمام هذا السيرك الإعلامي، وحسنة الاستغفار أمام غياب الصحافة التحقيقية الجادة، واكتفاء المحررين باجترار رؤوس أقلام النظريات العشوائية التي يبيضها رواد المقاهي من العاطلين في كل يوم، قبل استخلاص الأحكام بعد لعل ومن المحتمل وربما. أما الوفاء لخط تحريري واحد والثبات على المواقف واحترام أخلاقيات الصحافة ومعايير الإعلام الهادف، فهي لا تتعدى أن تكون سيناريوهات بالكاد تصلح لأفلام الخيال العلمي. غالبا ما تستظل الصحافة بظل احترام الخطوط الحمراء من شمس التهم الحارقة من قبيل المساس بالمقدسات والإخلال بالأمن العام وتهديد سلامة الوطن المسكين والمواطنين اليتامى. ثم تنهال على هذا الحزب أو ذاك، في تقسيم عادل للأدوار على حسب توجهها الإيديولوجي، إذا جازت مثل هذه التعابير الخارقة للعادة في المغرب. اليوم دور حزب الأصالة والمعاصرة. وقد تجد الإبرة في حزمة القش قبل أن تجد ما يختلف فيه عن الأحزاب الأخرى التي تنعتها الأقلام الفولكلورية بالتقليدية، وتحسب نفسها دياصيرا سياسية راسخة في تاريخ النضال، بعد أن أيقنت من أنها مسحت من ذاكرة الشعب ملابسات ضلوعها في تصفية المقاومة المسلحة وجيش التحرير بعيد الاستقلال. وغذا يأتي الدور على حزب الاستقلال وأسرة عباس الفاسي الحاكمة. وكل ذنب الرجل أنه يسعى لتوفير وسائل العيش الكريم الذي يليق بمقامه ومقام عائلته. أما حبيبة الصحافة وكيس لكمها المفضل فهي الأحزاب والتيارات الإسلامية، وعلى رأسها جماعة العدل والإحسان التي تخصص بعض الصحفيين في الإبداع في عبارات السب والتشهير واختلاق التهم كلما عرضوا (أو تعرضوا) لها في كتاباتهم. هي الوجبة الدسمة والفرصة السانحة التي لا يفلتونها ليطلقوا العنان لحرياتهم المكممة في التعبير وإبداء الرأي، لا لسبب إلا لأنهم يقدرون على ذلك دون حسيب أو رقيب، في محيط يفترس فيه الحوت الكبير السردين الصغير وتتغذى فيه الأنشوفة على بلانكتون التيارات الإسلامية. وبعد كل هذه الخرافات والخزعبلات، يمضي هواة التحليل النفسي في بلادنا وما أكثرهم، في استخلاص العبر واستنباط الأسباب والدوافع بعد دراسات يشاع عنها أنها مستفيضة حول شخصية المواطن المغربي. فيشخصون فيه متلازمة ستوكهولم (وهي حالة التعاطف التي تربط الرهينة بمختطفها)، و يكتشفون فيه اضطراب الارتباط من فصيلة مهيمن/مهيمن عليه (لأن الشعب لا يقدر على العيش من غير الحكومة ولا يطيق فراقها)، ويتهمونه بالفصام وازدواجية الشخصية واللائحة طويلة... يحاولون أن يوهموا المواطن المغلوب على أمره بأنه "يستحق" صحافته وأحزابه وحكومته، وأن من يسميهم صحفيين ورجال سياسة خرجوا من ضلعه خروج حواء من ضلع آدم عليه السلام، وهم لا يتعدون كونهم من نتاج المجتمع المغربي بسيئاته وسيئاته وسيئاته ثم بعد ذلك بحسناته. ثم يستنجد منهم المؤمنون والملحدون بكتاب الله فيقولون: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.) وفي مثل هذا النقاش البيزنطي والمنطق الدائري عن أصل البيضة وفصل الدجاجة كثير من النفاق واللبس الإرادي والعبث والمغالطة، لأن النخبة تكرس -بغرض الحفاظ على امتيازاتها- استعباد القاعدة وتقوقعها في براثن الفقر والجهل والأمية. يقولون: (لا تظلموا النظام وتنتقدوه، ولاتعكروا صفوه بمطالبكم. حاكموا المنظومة واشنقوها إذا شئتم...) يستغيث منهم المؤمنون والملحدون بالعهد الجديد، فيستطردون : (لا ترجموا الناس بالحجر قبل أن تتفحصوا قلوبكم وتفحصوا أعمالكم.) يودون لو يقضي المواطن المغربي عمره في تفحص خلاياه بالمجهر الإلكتروني، عله يشق نواتها ويستخرج منها جيناته ليغيرها، فيدجن مطالبه بتجميد وعيه وتناسي حقوقه. http://gibraltarblues.blogspot.com