قبل أن نعرض لتجليات السَّفَه عند الحكومة أو على الأقل عند رئيسها وبعض وزرائه، يحسن بنا أن نقدم تعريفا لكلمة "السفه" حتى لا نُفهم خطأ وحتى لا يعتقد البعض بأننا من هواة الشتم والقذف والسب… فرغم أن للسفه معنى لغويا (أي نقص في العقل) ومعنى اصطلاحيا (بمعنى نقيض الحِلم)، فإنه لا يعني عندنا أكثر من تصرف غير مقبول أو موقف غير موفق أو كلام في غير محله أو قرار غير محسوب العواقب أو إخلال بالواجب أو تنكر للعهود والوعود أو تحيز للقوي ضد الضعيف، أو نحو ذلك. وسوف نتجنب، ما أمكن، استعمال كلمة سفيه وسفهاء لما أصبح لهما من معنى قدحي. وبما أن المناسبة شرط، كما يقول الفقهاء، فسوف نبدأ بآخر حدث اجتماعي وسياسي بامتياز؛ ونقصد به المسيرة العمالية التي نظمتها ثلاث مركزيات نقابية (الأكثر تمثيلية) يوم الأحد 6 أبريل 2014 بالدارالبيضاء تحت شعار "المسيرة الوطنية الاحتجاجية دفاعا عن القدرة الشرائية والكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية". ما ذا قالت الحكومة، غداة الإعلان عن المسيرة، على لسان ناطقها الرسمي وعلى لسان رئيسها أيضا؟ لقد قالت إن المسيرة – التي نظمتها قطاعات كل من الاتحاد المغربي للشغل والكونفدرالية الديمقراطية للشغل والفدرالية الديمقراطية للشغل- سياسية؛ وكأنها اكتشفت سرا من الأسرار الخطيرة التي لا يصل إليها إلا أصحاب الفكر الثاقب والعقل الراجح! والحال أن السياسة توجد حتى في الهواء الذي نستنشقه. أليست السياسة هي التي تجعل بيئتنا إما نظيفة، فنستنشق هواء نقيا، وإما متسخة، فنستنشق هواء ملوثا؟ فهل يكتسي كلام "مصطفى الخلفي" وكلام "عبد الإله بنكيران" عن الطابع السياسي لمسيرة 6 أبريل أية مصداقية أو أيه أهمية أو أيه وَجاهة؟ إن مثل هذا الكلام لا يمكن أن يصدر عمن يعرف المعنى الحقيقي لكلمة السياسة. وقبل هذا وذاك، فهو كلام مردود، نظرا للوضع السياسي للمتحدثين. ألا تضرب الحكومة القدرة الشرائية للفئات العريضة من الشعب المغربي وفي طليعتها الطبقة العاملة، باسم السياسة؟ ألا تحتاج العدالة الاجتماعية (التي تطالب بها الطبقة العاملة) إلى سياسة اقتصادية واجتماعية غير تلك التي تطبقها الحكومة الحالية؟ أليس الدفاع عن الكرامة والحرية، يعني أن السياسة التي تتبعها حكومة بنكيران تضرب في المعمق الحق في الكرامة وفي الحرية وغيرها؟… فهل تريد الحكومة أن تحتكر العمل السياسي لوحدها؟ وبماذا يمكن أن نصف كلامها إذن؟ هل هو تضليلي؟ أو ديماغوجي؟ أو ساذج؟ أو سفسطائي؟ أو هروبي ؟ أو جاهل؟… يقال: كلام العقلاء منزه عن العبث. فهل يمكن أن نجد في كلام حكومتنا عن مسيرة 6 أبريل 2014 ما يمكن أن نضفي عليه صفة الحِلم والعقل؟ وأعتقد أن السؤال الحقيقي الذي يجب طرحه، هو: لما ذا اضطرت النقابات، مع هذه الحكومة، إلى الخروج إلى الشارع للاحتجاج؟ أليس هذا دليلا على درجة الاحتقان الذي تسببت فيه الحكومة بسبب سياستها الانغلاقية؟ فماذا كانت تنتظر هذه الحكومة بعد أن سدت باب الحوار في وجه النقابات؟ فهل راهنت على الاستسلام لسياستها؟ إن كان الأمر كذالك، فهذا غباء سياسي بَيِّن. أم أنها اغترَّت بعدم رد الفعل الفوري على قراراتها اللاشعبية؟ وهذا أيضا كاف باتهامها بالسفه. وحتى لا نظلم هذه الحكومة، فإننا نعترف لسفهها بنوع من الفضل في توحيد العمل النقابي. فأن يلتقي الاتحاد المغربي للشغل والكونفدرالية الديمقراطية للشغل والفدرالية الديمقراطية للشغل، في عمل وحدوي، ليس بالشيء الهيِّن؛ بل إنه حدث تاريخي غير مسبوق، وسيكون له ما بعده. وبما أن الموضوعية تقتضي أن نسجل كل المبادرات الإيجابية ونعترف لأصحابها (مهما كانت درجة الاختلاف أو الاتفاق معهم) بفضل ما في تلك المبادرات من إيجابية وفائدة على الحقل السياسي وعلى المسار الديمقراطي، فإننا نعتقد أن لقيادة الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية فضلا كبيرا في الحدث التاريخي الذي عاشته الطبقة العاملة يوم الأحد 6 أبريل 2014. لقد كسرت زيارة قيادة الاتحاد الاشتراكي لمقر الاتحاد المغربي للشغل، مباشرة بعد المؤتمر الوطني التاسع، الحاجز النفسي الذي كان يقف سدا منيعا أمام التقاء أبناء نفس العائلة النقابية المتمثلة في المركزيات الثلاث التي صنعت الحدث يوم سادس أبريل الماضي. لقد تمت قراءة تلك المبادرة من وجهات نظر مختلفة؛ بل تعرضت لتشويه مقصود من طرف جهات معنية، في محاولة لاستعداء أطراف نقابية، وذلك بتحميل المبادرة مقاصد غير تلك التي من أجلها تم الإقدام عليها. وقد تبين من خلال التنسيق بين المركزيات النقابية الثلاث أن رهان القيادة الاتحادية على جبهة اجتماعية للتصدي لهجوم الحكومة على المكتسبات السياسية والاجتماعية والحقوقية والثقافية…هو رهان ذكي ومتبصر؛ وقد بدأ يعطي أكله. وحتى نبقى في مجال السفه الحكومي، علينا أن نتذكر أن لامبالاة رئيس الحكومة هي التي تسببت في انفراط عقد الأغلبية الحكومية السابقة. فاستخفافه بمطلب التعديل الحكومي (الجزئي) الذي تقدم به الأمين العام الجديد لحزب الاستقلال، هو الذي أدخل البلاد في أزمة حكومية دامت شهورا، ليضطر، بعد ذلك، رئيس الحكومة إلى القبول بتعديل حكومي شامل ومع حليف جديد كان يعتبر التحالف معه خطا أحمر. أليس هذا نوع من السفه، حتى لا نقول بأنه السفه كله؟ ثم ما معنى أن تجمد الحكومة 15 مليارا من ميزانية الاستثمار وتلجأ، في نفس الوقت، إلى الاستدانة الخارجية؟ وبتعبير آخر، ما معنى أن يكون عندك مال، لكنك تفضل عدم استعماله وتلجأ إلى الاقتراض بالفائدة لتدبر أمورك اليومية؟ أليس هذا منتهى السفه؟ وإذا أضفنا، إلى ذلك، تبذير الأموال العمومية بالمليارات في شراء سيارات الخدمة (آخر دفعة تقارب 30 ألف سيارة حسب ما ورد في الصحافة) التي تكلف ميزانية الدولة عشرات المليارات من السنتيمات في البنزين فقط، ناهيك عن مصاريف الصيانة وقطاع الغيار، ندرك مدى سفه حكومتنا التي تتفنن في تبذير أموال دافعي الضرائب. والأدهى من ذلك، هو شراء السيارات ووضعها رهن إشارة الأشخاص النافذين في الإدارات، الذين يستمرون في الاستفادة من التعويض عن السيارة الذي قد يصل إلى 3000 درهم شهريا. فهل نُذكِّر، هنا، بوعد الحزب الأغلبي (الوعد الذي تم نسيانه بعد تولي المسئولية)، خلال الحملة الانتخابية (نونبر 2011)، بجعل الحد الأدنى للأجور يصل إلى 3000 درهم، أي ما يعادل ما يتقاضاه المسئول الإداري كتعويض عن السيارة فقط، ناهيك عن الامتيازات الأخرى؟ وهل نُذكِّر بأن "عبد الرحمان اليوسفي"، كان قد أوقف، حين كان وزيرا أول، التوقيع على شراء السيارات ، بما في ذلك للوزراء ومديري المؤسسات العمومية، مما جعل حظيرة سيارات الدولة تتراجع إلى 36000 سيارة فقط، في بداية الألفية الثالثة؟ أليس ما تقوم به حكومة بنكيران، التي تدعي محاربة الفساد، من تبذير للأموال العمومية في شراء السيارات هو عين الفساد؟… وإذا ما نظرنا إلى ما تدعيه الحكومة الحالية من إصلاحات كبرى، سنجد أن السفه هو المتحكم في نظرتها للإصلاح. وإذا كان السفه يعني، من بين ما يعنيه، هو عدم القدرة على حسن التدبير، فإنه يحق لنا أن نصف هذه الحكومة بالسفيهة لأنها تدبر أمورنا بمنطق يعاكس التاريخ. فإلى جانب تراجع مساحة الحريات لصالح التوجه الاستبدادي، وذلك حتى بالنسبة للتعامل مع المؤسسات الدستورية والهيئات التمثيلية، فإن الحكومة تنهج أسلوب التضييق، ليس فقط على الحريات، بل وأيضا على جيوب المواطنين بالضربات المتتالية الموجهة لقدرتهم الشرائية. وتتم هذه الضربات الموجعة باسم الإصلاح؛ لذلك كتبنا مقالا سميناه "حكومة بنكيران والإصلاح بطعم الإفساد" ("الاتحاد الاشتراكي"، 4 فبراير 2014). ويتجلى ذلك بوضوح فيما تدعيه الحكومة من إصلاح لصندوق المقاصة (الذي لعب ويلعب دورا حيويا، اقتصاديا واجتماعيا، يتمثل أساسا في الحفاظ على القدرة الشرائية للمستهلكين، وذلك بضمان استقرار أسعار المواد الاستهلاكية الأساسية)، بينما هي لا تعمل إلا على تشويهه بهدف إلغائه. وفي الوقت الذي ينتظر فيه المغاربة تفعيل الدستور واستكمال صياغته بمشاريع القوانين التنظيمية، ينشغل الفريق الحكومي للحزب الأغلبي وفريقه البرلماني بإعداد قانون يتماشى والتراجعات التي تحدثنا عنها، في تحد سافر لمدونة الأسرة ولدستور فاتح يوليوز 2011. يتعلق الأمر بقانون تزويج القاصرات، وكأن من أولويات المغربة هو تزويج بناتهم في سن 16 أو اختيار زوجاتهم، سنهن أقل من 18 سنة. فبدل البحث عن سبل تشجيع الفتاة على الدراسة والتحصيل، حتى تكتسب، إلى جانب المعرفة، النضج الضروري لتكوين أسرة، ينهمك حزب العدالة والتنمية في التفكير في كل ما يجعل المرأة مجرد آلة (لتفريخ الأطفال وتلبية رغبة الرجال). ومسيرة الدارالبيضاء لمناهضة مشروع إدماج المرأة في التنمية (الذي أعدته حكومة اليوسفي الأولى)، ليست بعيدة عنا. خلاصة القول، نحن أمام تجربة حكومية، ميزتها الأساسية هو السفه بالمعنى الذي حددناه في الفقرة الأولى من هذا المقال. وإذا ما أردنا أن نسهب في تقديم أمثلة عن هذا السفه الحكومي، بقيادة حزب العدالة والتنمية، فقد نحتاج إلى صفحات وصفحات. لذلك نكتفي بما قدمناه من أمثلة؛ وللقارئ أن يغني قراءته بما يراه مناسبا من أمثلة إضافية (مثل فضيحة "بوليف" الدبلوماسية وغيرها). فحكومة بنكيران وبعض وزرائها يغرون بالحديث عن بطولاتهم التي بلا مجد. ويأتي في مقدمة هؤلاء رئيس الحكومة ووزيره المكلف بالحكامة.